الغربة عن الآخر معرفة عميقة للذات

  • 11/16/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الغربة عن الآخر هي الحياة اليومية بتفاصيلها التي تحيا بها؛ لأنها حياتك ولا يفهمها الآخر؛ لأنها لا تشبهه وربما لأنه لا يبذل جهداً لمعرفتها وتفهمها: هو دائماً "الآخر". الوحدة ليست إلا كلمة، لكنها كلمة تفتح أبواباً لمفاهيم إنسانية كثيرة، فهي قد تجسد الحاجة للعزلة، التي قال عنها سارتر جملته الشهيرة في مسرحية عنوانها بلا مخرج "الجحيم هو الآخر"، واختلف عنه ابن الجوزي في صيد الخاطر، وقال عن العزلة "في العزلة طيب العيش". الحاجة للعزلة قد تكون مؤقتة بحسب احتياج الإنسان النفسي والعقلي لها، فللبعض تعيد العزلة بعض المنطق الذي اختل بفعل ضغوط الحياة اليومية وضجيج التفاعل الإنساني، وكل زخم التواصل الاجتماعي. العالم بكل سبل التواصل قد يكون خانقاً في بعض الأحيان، وقد يكون بوصلة تتمرد على خارطة الروتين اليومي، ويختلف بك عن ذاتك لتجد خارطة جغرافية بين يديك تقول لك: العالم هو ما ترى.. لتكون هذه اللحظة سبباً للصمت والتنفس بعمق وتأمل لحياتك من جديد. العزلة هنا اختلفت عن الوحدة لكنها -وأعني بها الوحدة- مكون أساسي لها، وقد تجسد الوحدة أيضاً الصمت الاختياري عن الحديث، أو الرغبة بالمشي سريعاً ووحيداً وغريباً؛ لأن العالم لا يعنيه إلا لو كان محطة قطار يسمح له بالتوقف أحياناً والارتحال دائماً. الحياة هي حركة تدفع الإنسان للصمت أمام سماء يتوسطها قمر ينيرها بكل ما ينعكس عليه من نور شمسٍ بدأت يوماً جديداً نبحث فيه عن حكايات المساء. هي الحوار مع من يعنيه هذا الصمت، وربما من يضيق بهذه العزلة الاختيارية التي تجسد الوحدة على خارطة الوجود الإنسانية، ويطرد رفيق اللحظة والروح والعقل، يطرد كل هذا الصمت ربما في بحث عن سبب جديد للصمت الجميل. نقل عن جريس كيلي أميرة موناكو أنها بابتعادها عن الآخرين فإنها تشحن "بطارية" طاقتها الإنسانية، وأنقل عنها حرفياً كلمة بطارية؛ لأنها استخدمتها في النص الذي قرأته باللغة الإنكليزية، قالت جريس كيلي، فاتنة هيتشكوك، إنها تحب المشي لوحدها في الغابات والشواطئ، الإنسان يحتاج أن يكون لوحده لشحن بطاريته، وقد تكون تعني بها طاقتها للتفاعل مع كل ما حولها. الوحدة قد تعني أيضاً القدرة على أن تكون نفسك، الغربة عن الآخر "أحياناً" معرفة عميقة للذات، الإنسان يجد نفسه في رفقة إنسان يعرفه جيداً، أو أنه يغترب بمن "هو" عن عالم لا يريد أن يعرف منه إلا اسمه الأول، وتفاصيل لا تعني أحدنا إلا لأنه "الآخر". بعيداً عن الفلسفة: الآخر هو من يختلف عنك لا من يختلف معك؛ لذا فاختلافه عنك إنسانية تتجسد بكل ما هو، مثلك تماماً، لا أحب الكتابة التي تخاطب القارئ مباشرة، لكنني أجد في نفسي حاجة لها لطرح بعض التساؤلات التي اتخذت بعدها من الصمت الاختياري فكرة أواجه بها رفضي لمن يرفض إنسانية وتفرد شخصي الذي لا أصفه بالمتواضع -الكلمات تجد مكانها هنا في سخرية من الذات- لئلا أقع في فخ الثناء على الذات دون الرضا عنها، أو رفض تفرد غيري بذاته التي لا تنتظر إلا مساحة من الحياة ودائرة تتسع بقدر معرفة الذات؛ ليجد الحب طريقه لقلبك، ومن ثم يجد طريقه لقلب غيرك، الحب معرفة قبل أن يكون عاطفة لا يمكن إدراك حدودها من القلب، والحب لغة تبدأها هذه المعرفة بالذات والآخر. رؤية الآخر بما هو عليه من تساؤلات وضعف وقوة وحقيقة إنسانية تتجسد في شغفه وعاطفته وصوته هي رؤيته لي التي تصدق إحداها الأخرى. الكتابة عن الذات نرجسية من نوع مؤلم؛ لأنها لا تعطي مساحة للخيال ليكون الواقع بكل صدقه بوابة للخيال، فيبدأ جنونه الذي يضع الإنسان أمام مرآة قاسية جداً، لا تعكس شيئاً بل تتحول إلى شاشة عرض سينمائية من نوع غريب، كأنها تعرض فيلماً صامتاً لا ينتهي أبداً، لكنه يعطي مشاهد متقطعة تجعل الدموع للعين أقرب دون البكاء، والابتسامة للقلب أقرب دون الشفاه. الوحدة هي إدراك للمساحة التي تقف بين الإنسان وبين عالم يشبهه، أو عالم هو دائماً يقف على حدوده. أن تكون أنت "أنت": هي حياة يومية من التفاصيل التي تشبهك وتمنحك هوية "إنسان"، والحياة اليومية تنتزع من القلب بعض نبضه، وتضعه أمام تحدٍّ قاسٍ جداً: أن يحفظ لنفسه رؤيتها دون أن يجد نفسه على مسافة من كل من يعرف بسبب كل ما يعرف. معرفة الذات حقيقة تصدم الآخرين "أحياناً" وسأستمر في هذه التدوينة على وضع كلمة "أحياناً" بين قوسين. حياة يومية مع تفاصيل تشبهني ولو كانت لحظة صمت؛ لأن عبد الوهاب يغني، أو حواراً مع صديق يعيدني إلى ذاتي؛ لأنه هو أيضاً يعرف ذاته، وقد تسببت هذه المعرفة بالمشي وحدي لمسافات طويلة هي أقرب لي من حياة فيها من الضجيج ما فيها من الزحام، ما فيها من الخوف من الذات، وربما بعض التواضع الزائف الذي قد يدمر معنى كلمة "أنا"، ويحولها إلى اعتذارات ومحاولات للتبرير. حاجة الإنسان لمعرفة الذات لا بد أن تسبق معرفة الآخر؛ لأن معرفة الذات هي إيمان بها وإدراك لمساحات تسمح للإنسان أن يكون شاعراً، مهندساً، رحالة، موسيقياً، خبازاً، كاتباً، مخرجاً سينمائياً، خياطاً، أو ربما إنساناً يحب الاستيقاظ في الصباح الباكر والمشي والعمل وتناول الطعام مع أسرته والنوم مبكراً دون أن ينوي فعل أي شيء آخر، هي البحث عن فيلم سينمائي تشاهده إلى أن تنام، والوقوف على مفترق الطرق وأنت تعرف أنك تعرف طريقك، لكنك اليوم تبحث عن طريق جديد، لتكون حياتك اليوم غير التي رأيتها بالأمس، وتجد في نفسك الصدق مع ذاتك، وأنت تسمع في أذنك ما لن يسمعه سواك: هو ما ترى. الحياة اليومية هي يوم في العمل، يوم في المدرسة، يوم في الجامعة، يوم لمتشرد لا يجد قوت يومه، يوم لطفل يبكي لاحتياجاته الأساسية، يوم لا يميزه شيء، يوم فيه من يحتفل بزفافه ومن يتلقى العزاء، هي كل هذه الأيام وربما في شارع واحد في مدينة واحدة. هذه التفاصيل هي التي تضعك أمام المرآة، في الشارع، في الزحام والضجيج، على سريرك، في رحلة ما، في السيارة، في مقر عملك اليومي، في المطبخ، وربما على شرفة ما.. تمارس الصمت أو الحديث مع الآخر لتقول لنفسك إن الحياة هي كل ما تسمح لك به نظارتك أن تراه، أحب نظارتي وأظن أنها تستحق لحظة وجود لها هنا. وقد تكون الحياة أجمل حين يكون الصوت الذي تسمعه في أذنك "هو ما ترى" حين يكون جملة من رفيق للروح والعقل والأيام، يقول لك "هو ما أرى". الحياة حكايات تفاصيلها لا تنتهي، وحتى صمتها لا ينتهي، وصخبها لا ينتهي، وألمها وفرحها، وحقيقة كل هذا تتجسد في ابتسامة عنوانها هو "ما أرى" أياً كان صاحب الصوت. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :