لندن: عدنان حسين أحمد قليلة هي الروايات التي تتناول الجلاد والضحية في آنٍ معا. فالكاتب العراقي يركّز غالبا على نفسه بوصفه كائنا مُستلَبا ومقموعا ومُصادَرا وينسى الجلاد، أو أن تركيزه ينصب كليا على شخصية الجلاد وينسى ضحاياه، غير أن الروائي سلام إبراهيم قد فعل العكس تماما حينما وضع الجلاد وضحاياه على «طاولة» التشريح ليقدم لنا رؤية محايدة ترتقي فعلا إلى مستوى الوثيقة التي وضعت الأمور في نصابها الصحيح. قد تبدو الإحالة الزمكانية في هذه الرواية «التعبيرية» المحايدة مراوغة بعض الشيء، لأن العنوان الرئيس مذيّل بحملة الأنفال بين 1987 و1988، لكن زمن الرواية الحقيقي يمتد إلى عام 1972 حينما اعتقل راوي النص ومبدعه وهو لم يجتز السادسة عشرة من عمره، وتعرّض إلى ضرب مبرح في مديرية أمن الديوانية ليذكِّرنا بأن فصول الاعتقال والتعذيب سوف تتكرر غير مرة قبل أن نلج وإياه إلى باطن الجحيم الحقيقي حينما يتعرض هو وثَنيّة روحه «بهار»، ناهدة جابر جاسم، وبقية رفاقه إلى القصف بالأسلحة الكيماوية المحرّمة دوليا في 1987/6/5، وسوف يمتد زمن الرواية إلى 2008، وهو العام الذي وضع فيه اللمسات الأخيرة على هذا النص السردي على الرغم من أن النهاية الإبداعية تتجسد في «التيه الإيراني» حينما يلقي الراوي اسمه الحركي جانبا ويستعيد اسمه الحقيقي بلذة مُضاعفة وكأنه يسترجع أرضا مغتصبة. يشكل البيتان الشعريان اللذان استهل بهما الرواية عتبة نصية معبرة جدا تعزز ما ذهبنا إليه بصدد الدراسة المتوازنة لشخصيتي الجلاد والضحية: «ننصت أنا والطاغية/ هو في دهشة وامتعاض/ وأنا في نشوة وطرب/ هو في قفص وأنا في فضاء». وسوف تمتد ثنائية الامتعاض والنشوة، والسجن والحرية على مدار هذا النص الإنساني المؤثر. فالراوي يستمتع، ويشعر بالبهجة، ويغرق في المسرة حتى يصل حد النشوة، وهو يرى الجلاد مدهوشا، ممتعضا، مسجونا في قفص، بعد أن ترك مذعورا قمة الهرم ليلوذ بحفرة متعفنة دامسة الظلام. أما الراوي الذي ينتمي إلى شريحة الضحايا فقد أصبح حرا، طليقا، منتشيا نشوة غريبة قد تفوق نشوة الجِماع! فلا غرابة أن نسمعه يترنّم على مدار النص بأغنية يوسف عمر «آه يا أسمر اللون حبيبي الأسمراني»، ليراقب عن كثب محاكمة الطاغية عن جريمة «الأنفال» التي ارتكبها بحق الكرد العراقيين وليتابع بعين فاحصة وأذن مرهفة انكسارات الجلاد الذي فقد بريقه، وعاد إلى طبيعته الأولى من دون رتوش. لا يقتصر المكان على وادي زيوة أو كردستان برمتها، وإنما يمتد إلى تركيا وإيران وسوريا وموسكو والدنمارك، الأمر الذي سيمنح الرواية بُعدا كوزموبوليتانيا فيه الطبيب الروسي، والمحامي الدنماركي، والمحققة الهولندية، وعنصر الاستخبارات التركي، ورجل الأمن الإيراني وما إلى ذلك. تكمن قوة هذا النص في منحاه التراجيدي، فعلى الرغم من قسوة العذابات البشرية التي تتعرض لها الشخصيتان الرئيستان، سلام وناهدة، اللذين تقنعا باسمي «أبي الطيب» و«بهار»، فإن كارثة القصف بالأسلحة الكيماوية كانت أشد وقعا من أي عذابات ثانوية أخرى، وذلك لبشاعة السلاح المحرّم الذي أودى بحياة بعض الضحايا أو كان سببا في إعاقتهم مدى الحياة بمن فيهم راوي النص وزوجته اللذان يعانيان من تداعيات الضربة الكيماوية حتى هذه اللحظة ولم يتخلصا من التأثيرات الجانبية لهذه الصدمة. لقد أمسك راوي النص بتلابيبنا فعلا حينما وصف لنا الجحيم الذي أدخله الديكتاتور فيه، وأدخلنا كمتلقين أيضا، فأنا كقارئ كنت أتلمس على مدار الفصل الأول حجم الألم الفظيع الذي كان يعاني منه الراوي، حيث بدأ يشعر بالاختناق والاحتقان والحرقة الشديدة في عينيه الداميتين. ثم انتشار الألم الممض في معظم أنحاء جسده، وظهور الفقاعات المتقرحة في ظهره وخصيتيه وعضوه التناسلي، والتهاب لوزتيه اللتين أوشكتا أن تسدا بلعومه، كما ستصاب زوجته بالعمى المؤقت وبعض الأعراض المماثلة الأخف وطأة لأنها وضعت منديلا مبللا على فمها وأنفها في أثناء القصف خصوصا أنها شمّت رائحة غريبة غير طبيعية شبّهها أحد الرفاق الزوار بأنها «تشبه رائحة التفاح المتعفن والثوم». ولعل مشهد غط الرؤوس في مياه الينبوع الذي نصح به الدكتور أبو إلياس هو من أكثر المشاهد تأثيرا لأنها تكشف عن تعلّق الإنسان بالحياة، كما تعرّي بشاعة الجلاد ووحشيته في التعامل مع أبناء جلدته الذين يخالفونه في الرأي والعقيدة. في خاتمة هذا الفصل نجد أنفسنا أمام شخصية إريك هانسن الذي استدعى الراوي إلى مكتبه في كوبنهاغن وحقق معه في تفاصيل حادثة القصف الكيماوي التي تعرّض لها نحو مائة شخص تقريبا وكان قد صورها أحد أعضاء «حدك» في اليوم الثاني من القصف، وقد وصل الشريط الذي ضم صور الضحايا من الشهداء والمعاقين والمحروقين إلى إريك هانسن الذي اختتم جلسته التحقيقية بسؤال الراوي إن كان يعرف نزار الخزرجي أم لا، وهل هو مستعد للإدلاء بشهادته في المحكمة الدولية لمجرمي الحرب بلاهاي في حال القبض عليه من قبل شرطة الإنتربول أم لا، خصوصا أن هذا الأخير كان رئيسا لأركان الجيش، وهو الذي أشرف على عمليات الأنفال آنذاك، وقد وصل إلى الدنمارك لاحقا، لكنه هرب في ظروف غامضة من مقر إقامته الجبرية قبيل الهجوم الأميركي على العراق عام 2003. * قيامة جديدة ظل الراوي يتابع جلسات المحاكمة بشغف لا يفتر على الرغم من غياب الطاغية، فزمرته لا تقل عنه صلفا وفظاظة وعنادا، إذ لم يعتذر منهم أحد لما اقترفته يداه بحق الشعب العراقي. ففي هذا الفصل سوف يُدخِل الديكتاتور عددا من رفاق الراوي في جحيم آخر لا يقل ضراوة عن الجحيم السابق، لكن الراوي وكاتب النص سيعتمدان على تقنية قطع الحدث ثم المعاودة إليه متنقلين بين بيته في الدنمارك ومقرات فصيل المكتب السياسي في زيوة وكاني ساركي، وبين غرفة في فندق بلاهاي قبل التوجه إلى المحكمة. وقد أسهمت هذه التنويعات في كسر رتابة السرد التقليدي الذي قد يستغرق في تيمة محددة. فحينما يكون في بيته بروزكلده يتأمل في ثنائية الضحية والجلاد، وعندما ينتقل إلى زيوة يضعنا في مواجهة كارثة جديدة سيهلك فيها العديد من رفاقه بغاز الأعصاب هذه المرة بعد أن هلك رفاقه في الفصل الأول بغاز الخردل الحارق. وحينما ينتقل إلى لاهاي يحاصرنا برقة الهولنديين، ورهافة مشاعرهم، وحرصهم على تحقيق العدالة، وإنزال العقاب الصارم بمواطنهم الهولندي الذي كان يزوِّد النظام الديكتاتوري السابق بالأسلحة الكيماوية. يتسم الفصل الثاني بنفسه التراجيدي المفجع أيضا إذ تعرّض رفاق الراوي إلى القصف بغاز الأعصاب هذه المرة وفارق بعضهم الحياة مثل أبي جواد وأبي الوسن وأبي أسعد الذي انتحر فيما أصيب آخرون بالهلوسة والأعراض الهستيرية مثل منذر وعمّودي الذي لم يتشوّش كليا. ثمة أفكار فلسفية عديدة كانت تلتمع في ذهن الراوي أثناء بعض الحوادث المفجعة، حيث كان يشعر بأن الطبيعة تبدو غير آبهة بموت رفاقه الثلاثة الذين تمّ دفنهم بطريقة غير لائقة بهم، بل إنهم اضطروا لسحب جثة أبي جواد لثقلها قبل أن يضعوها في أخدود ويغطوها بدل التراب بالحجر! ثم يأمر مسؤول الموقع بحرق المقر والانسحاب صوب الحدود التركية مع آلاف مؤلفة من القرويين الأكراد الذين يعيشون قيامة جديدة بين أوان وآخر. * معسكرات التيه لا يخلو الفصل الثالث من حوادث مؤسية تتوفر على قدر كبير من الشد والتوتر والمفاجآت، حيث تجمع آلاف النازحين عند نقطة حدود تركية لم تصمد كثيرا أمام إلحاحهم بالدخول خصوصا أن القصف المدفعي أوشك أن يطالهم فلم يكن أمام السلطات التركية إلا أن توافق على استقبالهم في معسكر مخصص لهذا الغرض. ثمة مواقف كثيرة تستحق الرصد والدراسة والتحليل وذلك لأهميتها في السياق السردي لهذا النص الروائي، مثل خطف الطبيب الكردي واستدراج أبي ماجد الذي يتحدث الألمانية إلى خارج المعسكر وضربهما ضربا مبرحا بسبب وجودهما المريب بين هذه الجموع القروية الغفيرة. كما تحتاج حكمة الشيخ عطا الطالباني ورأيه بالأحلام النظيفة والرجال الأطهار إلى وقفة خاصة لتسلط الضوء على ثنائية نبل الكائن البشري وخسته في بعض الأوقات النضالية الحرجة. إن نشر هذه الشهادة التي ترقى إلى مستوى الوثيقة واجب وطني يعري، كما أسلفت، ثنائية الجلاد والضحية، ويكشف عن مواطن قوتنا وضعفنا في آن معا. وقد نجح سلام إبراهيم في الجانبين التوثيقي والإبداعي على حد سواء.
مشاركة :