الصحوة بين البناء والهدم

  • 11/18/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

بدون مقدمات.. أقول مستعينا بالله العظيم الذي لا إله إلا هو، متوكلاً عليه، متدثرا بدثار المحب الصادق لكل من له فضل عليه، مشتملاً قلب الناصح لنفسه وأمته، مستمسكاً ب ﴿إِن أُريدُ إِلَّا الإِصلاحَ مَا استَطَعتُ وَما تَوفيقي إِلّا بِاللَّهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنيبُ﴾[هود: ٨٨] اللهم أوسع لها صدرا، وانفع بها صدقاً، واجعل قصدي بها وجهك الكريم يا أرحم الراحمين.. إن قبول النصح والتوجيه من سمات الصادقين، ومحبة الناصح يدل على صفاء النفس وسمو الروح، والعكس صحيح.. إن الصحوة التي ترعرعنا فيها العقود القريبة الماضية، ونشأت من خلالها أجيال من كل أطياف المجتمع ومكوناته تقريباً؛ ومالها من فضل وأثر تشكر عليه ولا تُكفر، إلا أنه كان فيها من الحلقات الهشة أو المفقودة، والتي أسهمت في تشكيل الشخصية المتدينة في صورتها النهائية، والتي تحمل في داخلها ضعفاً وتردداً، وازدواجية في كثير من المعايير والتصورات، بقدر ما مورس عليها من الرهاب الديني بشكل مباشر وغير مباشر، ومصادرة الرأي بطرق مختلفة، ومنها الإيحاء بسوء المنقلب في المال والأهل والولد ونزع البركة؛ في حالة الخروج عن مسارها، والتربية على الرأي الواحد فيما يقبل الخلاف من مسائل الرأي والاجتهاد، وجعل هذا الأمر؛ من صور الثبات على الدين، وخلافه هو الزيغ والضلال عن صراط الله المستقيم، وبقناعة وهمية تامة، تكونت عند أتباعها، وتم زرعها بعناية فائقة!..  إن البعد عن الفطرة السليمة بحق التي أرادها الله تعالى لعباده، والتي حادت عنها الصحوة قديماً خطأ أو جهلاً، من خلال ما مُزجت به من الإنغلاق والأحادية في الرأي، والتربية على القول الواحد فقها وعقيدة ومنهجاً، باسم منهج السلف في بعض المسائل ظلماً، وعدم الوقوف على المدارس العلمية والفكرية الأخرى، والتي هي أيضا من منظومة فقه السلف أزعم، وكذا الحرمان من كثير من المباحات والملاذ الدنيوية الطبيعية، والتي تناسب المرحلة العمرية التي ينشأ فيها الشاب المتدين، أو الفتاة المتدينة، باسم الورع تارة، أو خوارم المروءة تارة أخرى، فضلاً عن الأحكام الغالطة بالتحريم، كان له أبلغ الأثر على مستقبلهم وتكوينهم العقلي والفكري، وردود أفعالهم غير المتوازنة، أمام كثير من المتغيرات، والمغريات والمستجدات، والشهوات التي ستواجههم في حياتهم اضطراباً وخللاً، بل أوصل بعضهم إلى الانحراف بالذنوب والمعاصي والتخفي بها جراء عدم الانسجام ومخالفة الفطرة والتناقض بين التنظير والتطبيق، فضلاً عمن انحراف بالكفر والإلحاد..  فكانت النتيجة؛ أنك لا تكاد ترى متديناً حقيقياً من منظور هذه الصحوة وآرائها ووجهة نظرها؛ إلا من خلال معطياتها الخاصة، في تلك البيئة المتدينة، ذات النسيج الخاص الذي نسجته، المليئ بأوجه النقص والتناقض، في كثير من المسائل الدينية والحياتية، حيث مزجت فيها التقاليد والعادات والمفاهيم الشخصية، بالأحكام الإلهية الشرعية السماوية، دون تفريق بينها، وغيبت فيها كثير من المقاصد العليا للشريعة، وأصبح التعامل مع كثير من الأحكام الشرعية؛ تعامل الآلة الصماء التي لا تعي ما يراد لها ومنها، ولا تدرك من واقع النص الشرعي وفقهه إلا الحروف باسم التسليم للشرع جهلاً به، ومورست عقيدة الولاء والبراء مع تلك المخرجات المؤلهة ظلماً مع أفراد المجتمع، فضلا عن ممارستها على أتباع هذه الصحوة ذاتها، ناهيك عما يقع مع غير المسلمين، دون تفريق بين محارب، ومتعايش، وفقد حاسة التمييز بين آيات القرآن الكريم التي فرقت بين المواجهة والتعايش.. فضلا عن التناقض في التعامل مع قواعد وأدب الخلاف الذي يدعون إليه الطرف المخالف في محاوراتهم، فما لا يجوز في حق خصومهم، يكون جائزاً في حقهم، لأنه باختصار حمية للحق والدين، والغضب لله زعموا، وإليك الواقع والمشاهد في عالم الميديا وقنوات التواصل المختلفة من مسموع ومقروء ومشاهد، وهي من أعظم المنفرات عن الحق والدين بلا ريب، فتباً لهذا سبيل!!  وأصبح كثير من رموز الصحوة وشخصياتها المؤثرة، هي من يمثل الفضائل والقيم الإسلامية في نفسها -عند الأتباع في الحقيقة -ولو لم يصرحوا- فالإشارة قد تغني عن العبارة؛ وذلك من خلال متابعة السلوك الفطري والجبلي الغريزي لهؤلاء الرموز والنخب، كطريقة الكلام، ونبرة الصوت، وهيئة اللباس، والتخشع، و عدم الخروج عن قول المدرسة الدينية من خلال رموزها المعتبرين فيها، لأنه منتهي العلم، وقوة الحفظ والحجة!.. فأثر ذلك على المشهد النهائي العام، فأصبح تقليد الرموز في عوائدهم وأقوالهم؛ هي القيم والفضائل بعينها، والنتيجة النهائية المحصلة لها؛ والمتقيد بذلك من الأتباع؛ هو من يمثل الامتداد الحقيقي لهذه الصحوة، والمؤهل لحمل رايتها، ولو كان بعض هؤلاء المقلدة من الأتباع؛ فارغاً عن حقيقة ومضمون تلك السلوكيات وروحها في الحقيقة، والتي كانت تملكها النسخة الأصلية من الرموز والقدوات..  فنشأت في الصحوة أشباح ودمى تتحرك، لتمارس زهداً بغير توازن، وورعاً بغير علم، ودعاوى من غير بينة وتطبيق، وبعداً عن التجرد في بحث الآراء الأخرى، والنظر المحايد فيها، في قضايا أقل أحوالها أنها تقبل الخلاف، -فضلا عن الاستعداد لقبولها، أو قبولها بالفعل؛ كونها هي الحق الذي ينبغي أن يتبع- متى ظهر ذلك، وكل ذلك تحت دعوى طلب الثبات على الدين!، وخرج من ينظر لهذا السلوك من الفضلاء بالكلمات المؤثرة والرنانة، والحكم والأمثال التي تؤصل وتجذر لهذه الفكرة، في أجواء من التصفيق الحار والثناء على قوة العبارات وجزالة المنطق، والعمق من أتباع الصحوة المباركة، ولاشك في عظم أمر الثبات على الدين، إلا أن الأمر في ذلك؛ لا يكون عن تقليد أعمى، وإنما عن بحث ويقين.. وإنما وقع ذلك للصحوة؛ لاعتبارها أن الآراء التي تخالفها؛ تكون دائماً مغرضة، ووساوس شيطانية مفسدة؛ ومخالفة لما عليه القدوات، فهي توجهات ينبغي الحذر منها، وأنها تمثل مفسدات للدين والدنيا، و يجب تفنيدها ووأدها في مهدها، وأن الآراء المخالفة دائماً ضرب من ضروب التخرص والجهل، وربما فسرت على أنها عمالة لجهات مشبوهة، تقوم بصناعة تلك الأقوال ودسها لمآرب أخرى، أو أنها نوع من التشبه بالكفار، والاستمالة لهم، وقل ما شئت من مصطلحات الشيطنة والتحذير، التي يؤسف لها، والتي تقتل مفهوم البحث العلمي، والفطرة السوية!! فترى بعض المتدينين مثلاً يتورعون عن بعض الفروع من مسائل الشرع، وما هو مختلف فيه من العمليات، وتراهم آمرين فيها بالمعروف، ناهين عن المنكر، ناشطين في الميادين العامة لصغائر ذنوب العامة، منظرين لها، مقعدين لقواعدها، مهولين من شأنها، تاركين غيرها مما هو أعظم منها، من بدهيات وأساسيات وأولويات الدعوة إلى الله عز وجل!.. فتراهم في المقابل يبتلعون مسلماً كاملا، مجمعاً على حرمة عرضه ودينه؛ بغيبته والانتقاص منه، والتأليب عليه، أو نشر المقاطع الساخرة به -في مجموعات برامج التواصل الاجتماعي وغيرها من التقنيات الحديثة اليوم-، بقصد التنقيص منه، و إظهار ازدرائه والحقد عليه، من العامة كان أو من الخاصة، لمجرد مخالفته لمنهجهم و رأيهم، باسم النهي عن المنكر، تحت طائلة بحر التصنيف، أو اعتباره ممن لا غيبة له، فأي ورع هذا وأي دين؟!! فضلا عن تحزب الصحوة في نفسها وذاتها، وتشرذمها إلى أحزاب وجماعات، كلها تزعم أنها أولى بالله من غيرها؛ مع دعوى الاجتماع والأمة الواحدة الكاذب؛ ﴿فَتَقَطَّعوا أَمرَهُم بَينَهُم زُبُرًا كُلُّ حِزبٍ بِما لَدَيهِم فَرِحونَ﴾، [المؤمنون: ٥٣]، والحقيقة أنهم تقاسموا الحق بينهم، كما تقاسموا الباطل في المقابل في بعض ما اختلفوا فيه!! وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ لبيان جانب من جوانب النقص الفاقع في بعض مسائل التربية؛ ترى في بعض أوجه السلوك عند هذه الصحوة؛ مبدأ التشجيع فيهم وبينهم، له مسار نفسي خاص؛ ويحظى بحراسة مشددة غير مبررة، فحديث الإنسان عن نفسه، أو إظهاره بعض ما أنعم الله به عليه من الفضل والعلم والدين والعمل، أو ما كان عازما عليه من الخير؛ كثيرا ما يكون في نظرتهم وفلسفتهم موضع ريبة، ومحل نظر، وسببٌ في الرياء، بل هو عين الرياء عند بعضهم، وصورة من صوره المستقبحة، وهو إفساد لمنظومة الإخلاص أو يكاد، فهو طبق واحد عندهم، لا فرق فيه بين التحدث بالنعمة، وبين الرياء المذموم على ألسنة الرسل، ولو قسموه نظرياً وفرقوه في أطروحاتهم المكتوبة والمسموعة بما يطرب الآذان!، إلا أن الواقع يأبى و يشهد بهذه الإزدواجية بين التنظير والتطبيق، وهذا المسلك لا ريب؛ مخالف لصريح المنقول والمعقول، كما لا يخفى على المتخصص، ذي الحد الأدني من الإطلاع على نصوص الوحيين.. ولا أزال أذكر حديث المشنعين من بعض رموز هذه الصحوة وكبارها في مجالسهم العامة قديماً، على الذين يترجمون لأنفسهم، على أغلفة مؤلفاتهم وكتبهم، فيكتبون سيرهم الشخصية وإنجازاتهم عليها؛ بذكر (ما تحصلوا عليه من شهادات، وما خاضوه من مؤتمرات، واجتماعات، وتجارب، وما تولوه من مناصب، وألفوه من مؤلفات، وأحرزوه من ألقاب ورتب.إلخ) فيسمونهم وصفاً وتحليلاً وظلماً لهم متأسفين عليهم؛ بأنهم لم يحظوا ولم ينعموا بقدر كاف من التربية على الإخلاص، وإخفاء العمل، والتخفي بالذات، إذ فكيف يترجمون لأنفسهم!! في خلط سافر وفج بين المفهومين، مفهوم الرياء، ومفهوم تحدث العبد بنعمة الله عليه، والتعريف بنفسه ليألفه الآخرون، وليكون موضع قبول وأخذ وتلقي، ونشر للخير بينهم، وعملاً بسنة التعريف بالنفس، التي امتلأت به النصوص الشرعية، كما جاء في باب الأرواح جنود مجندة عند البخاري رحمه الله، ﴿وَأَمّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث﴾[الضحى: ١١].. وترى هذه الصحوة المنقوصة؛ صنعت من أتباعها جماعة مغلقة في كثير من ميادين المجتمع وطبقاته، فتراها غير قابلة للتعايش الطبيعي مع الآخرين، إلا بالمداراة والتكلف، وبناء الحواجز المصطنعة أحياناً، والإيحاء بأن الشخص المتدين شخص مختلف عن غيره من الناس في تركيبته ونزعاته الإنسانية، حتى في عوائدهم الطبيعية وردود أفعالهم الفطرية، أو ما قد تسميه وتبرره تلك الصحوة أحيانا بأن مصلحة الدعوة تقتضي ذلك، أو الوقار المصطنع كإجراء وقائي لهذا السلوك، وهو غطاء في الحقيقة على الخلل في التكوين المجتمعي لديها، فيسري هذا الخلل والعزلة في المجتمع الواحد، الذي تجمعهم فيه كثير من الخصائص والمكونات مع الآخرين، ليمتد هذا السلوك مع بعض القرابات وذوي الرحم أيضا، لاسيما الذين لا يتفقون وبعض التوجهات السائدة في داخل هذه الصحوة، من مظاهر التدين السطحي الظاهري، الذي زرعه في الأتباع بغير شعور منهم الرموز والمؤثرين، وكل هذا وأكثر منه؛ كان مبرَّراً بينهم، ومدعوماً بالحجج المتكلفة، والنقولات التي تمثل آراء أصحابها قديماً وحديثاً على أحسن تقدير، وليست نصاً معصوماً عن صاحب الشرع بهذا المفهوم المغلوط، وتقدم لتبرير هذه المسالك البراهين غير الواقعية، أو الأخذ بدليل وترك آخر، باسم التسليم للشرع، أو الخوف على النفس من الزيغ والضلال والفتنة، وافتعال مصطنع لمفهوم الغربة والتكلف فيه، وصراع الطائفة الناجية مع المجتمع حولها، ونحوها من المفاهيم والمصطلحات الشرعية في أصلها، ولكنه لا يصح نقلاً وعقلاً وفطرة اصطناعها، وتعمد جلبها عمداً بين المسلمين للتفرقة بينهم، وانتزاعها من رحم الأحداث انتزاعاً، وخلقها في الواقع افتراء على صاحب الشرع جهلاً بطبيعته..  ومن ثم تشكيل العقل الجمعي على هذا الأساس، وتقرير التأرجح بين الانتكاسة والثبات، بقدر الحفاظ على هذه المنظومة المصطنعة، والمعادلة الخاسرة، والنسيج الخاص من عدمه، وهي الصورة الناصعة والمحصلة الأخيرة للتدين الصحيح لدى أتباع هذه الصحوة؛ بقصد أو بغير قصد للأسف الشديد، ومن رحم هذه التفسيرات ظهر الغلو والتنطع في الدين والتكفير للمسلمين بعد ذلك، واستباحة دمائهم وأموالهم، وليس هو صنيعة استخباراتية دوما كما يُزعم، أو أنه في الحقيقة أمد العمل الاستخباراتي الأجنبي بالمواد والأيدلوجيات المطلوبة واللازمة لمهمته في القضاء على الإسلام كما هو ممكن كذلك!! إن الصحبة الصالحة أمر من المسلمات، وهو مما لا جدال فيه، ولكن موضع الإشكال والنزاع هنا، ينصب على العزلة المجتمعية دون مبرر شرعي صحيح، وبناء الحواجز بين أفراد المجتمع الواحد، والتي تهدم ولا تبني منظومة القيم في الحقيقة، وهو مخالف لما كان عليه صدر هذه الأمة الواحدة، في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.. صدقاً استطاعت الصحوة منذ فترة مبكرة؛ أن تجيش أجيالاً تعاديها بامتياز، بزرعها وحديثها المستمر بلا انقطاع عن نظرية المؤامرة، بشكل مبالغ فيه عند أتباعها، وبالتفسيرات المشككة في النوايا، والتهمة بالمؤامرة لكل ماهو جديد، واتقان فن الاستعداء للرموز المجتمعية والشخصيات، بكثرة الردود الجارحة، والعبارات القاسية، والتجهم المقيت، وبث روح الرعب من كل قادم، فكانت المحصلة هي المقابلة بالمثل من خصومها ولابد، ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء!. وتراها أصدرت الأحكام بالتحريم قديماً وحديثاً؛ على كثيرٍ من النوازل، من تقنيات حديثة، وأجهزة ومخترعات مفيدة، والتزهيد فيها على أقل تقدير، خوفا من فتنتها وعدوانيتها على الإسلام وأهله وتغييرها للسنن والتقاليد، وذلك حينما كانت في بدايات ظهورها، كأجهزة التصوير، وجوالات الكاميرا، ومن قبله الفاكس، والهاتف، والكهرباء، ومكيف الهواء، فضلا عن تعليم المرأة، ثم انتقلوا بعد فرض تعليمها، ومطالبة العالم بذلك؛ إلى حرمة تدريسها علم الكيمياء والجغرافيا وغيرها من بين العلوم، في سلسلة طويلة لا تكاد تنتهي من المحرمات، باسم الخلاف الفقهي تارة، وسد الذريعة، والتفسيرات المختلفة والمختلقة تارة أخرى، إلى حد الإسفاف، حتى ضحكت منا شعوب الأرض!! ليتحول رموزها هم أنفسهم بعد ذلك؛ إلى أحوج الناس إليها، ومن أوائل المستفيدين منها، والمنتفعين بخصائصها، والمستمتعين بنعيمها، ومن أبرز مستخدميها، والمتخصصين فيها، بل وتجار لبيعها، واستثمارها في العصر الحديث، متفننين في استنطاق واستظهار فوائدها، وعظيم ثمرتها، وحاجة الدعوة إليها، بل وقيام الدين والدنيا كلها عليها، فيا لله من عجب!! مع الاستمرار طبعاً-وهذا في بعضهم- في لعن مخترعيها، والتقليل من حضارتهم ونجاحهم الدنيوي، والدعاء عليهم بالويل والثبور، لأنهم كفار بالله ورسوله!، في تناقض واضح في أدبيات العدل الذي أمر الله به مع الآخرين -سيما المحسنين منهم-، وما يمليه العقل السليم، والفطرة المستقيمة، التي تدعونا إلى أن نقول للمحسن أحسنت، وللمسيئ أسأت، مسلماً كان أو كافراً، وذلك في تحقيق هدف واضح من أجل الأهداف الشرعية على الأقل؛ وهو الدعوة إلى الإسلام، وترغيب غير المسلم للدخول فيه، بدلاً من تنفيره منه.. فبدلا من اللجوء إلى الكافر للاستفادة منه، والاحتياج إليه، وجعله سبباً في تسهيل حياة بني الإنسان، بما فيها حياة المسلمين بلا ريب، ومن ثم لعنه مكافأة له على إحسانه!، كان الأجدر أن يكون ذلك بالثناء عليه بما فيه من النجاح والخير والإبداع، والتأسي به في ذلك، للنهوض بالأمة الإسلامية الغافلة اليوم، ودعوته إلى الله تعالى من خلال ذلك المشرب النقي العادل والصادق.. فكم من رحم وصلت بسبب التقنية الحديثة، وكم من حياة وروح انقذت بسبب التقنية الحديثة، وكم من مريض شفي بسبب التقنية الحديثة، وكم من علم نافع -بما فيها علوم الشريعة (النقلية)- انتشر بسبب التقنية الحديثة، وكم من سعادة حصلت بسبب التقنية الحديثة، وأسألوا الأستاذ القدير قوقل إن شئتم، ﴿وَلا يُنَبِّئُكَ مِثلُ خَبيرٍ﴾[فاطر: ١٤]، وكل ذلك من فضل الله ورحمته، ثم بسبب القوم.. فسبحان الذي أعطى كل شيئ خلقه ثم هدى!!..  وربما سكتت الأجيال الواعية من أبناء هذه الصحوة عن أخطائها، واختزال واقعها المؤلم بابتسامة الخجل، خوفاً من التبعات المترتبة على هذا النقد، أو بحجة الوفاء لمدارسهم الدينية التي نشأوا وترعرعوا فيها، أو انتسبوا إليها، من غير وعي منهم بخطورة تلك الأيدلوجيات التي تحملها تلك المدارس، وأهمية النقد والنصح لها، وربما خفيت عنهم هذه المسائل، لأنهم لم يدركوها أو يقفوا عليها أصلاً لحداثة سنهم، وربما تعمد الرموز إخفاءها عنهم أصلاً، حرجاً منها.. وبالفعل؛ لا تكاد تقف اليوم على تلكم الفتاوى المخجلة الماضية بالتحريم لكل جديد، ذات العيار الثقيل، التي أصدرها بعض الطيبين والفضلاء يوما من الدهر، أو اعتبارها على الأقل تراثاً يُفتخر به، كسائر العلوم والمعارف التي احتفظت بها الأمة قرونا طويلة، لتفاخر بها غيرها من الأمم، كعلم الرجال، والنحو، والبلاغة،  والشعر، والأصول، وغيرها، فأين هذه الفتاوى لماذا تخفى عن الاتباع، لماذا تدس في التراب؟ !!. ولا أزال أذكر حديثاً دار بيني وبين أحد كبار السن الفضلاء- وهو رجل تسعيني حي لا يزال يرزق حتى كتابة هذه السطور-، وهو من رموز هذه الصحوة، حيث حدثني عن زيارات لهم في الزمن الغابر، لبيوت عدد من المسلمين حينها، لبيان حرمة مكيف الهواء!!، والذي كان أعجوبة من أعاجيب الدهر عند ظهوره في ذلك الوقت، بحجة أنه يخالف سنن الله الكونية، في تقلب الفصول الأربعة للمناخ، فيجعلها المكيف اللعين!؛ فصلا واحداً وهو فصل الشتاء، وهي محادة ظاهرة لله ورسوله، وكبيرة من كبائر الذنوب، ومخالفة ظاهرة للقرآن الكريم، الذي نص على ثبات سننه سبحانه، فلا تتبدل، ولا تتحول، من وجهة نظر المحرمين في ذلك الوقت وفقههم للنصوص، ﴿استِكبارًا فِي الأَرضِ وَمَكرَ السَّيِّئِ وَلا يَحيقُ المَكرُ السَّيِّئُ إِلّا بِأَهلِهِ فَهَل يَنظُرونَ إِلّا سُنَّتَ الأَوَّلينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبديلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحويلًا﴾[فاطر: ٤٣]!! وهذا بلا شك؛ يعكس طريقة التفكير، وطبيعة التدين الذي مرت به هذه الصحوة المنقوصة، وجرأتها في التوقيع عن رب العالمين، والذي لا ينبغي أن يمرر مرور الكرام، دون تأمل وتفحص جيد في تلك الأيدلوجيات المتبعة، والنفسيات المتحكمة، وطريقة التفكير، في بث روح التدين المليئ بالانغلاق، والعداء للآخرين، ولكل ماهو جديد، وتسليم الزمام الكامل لها، وتعطيل العقل عن التدبر فيما يصدر عنها، ومن ثم نسبته إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم جهلا وافتراء، أو باسم الاجتهاد البريئ، واختزال المشروع برمته بأنه اجتهاد من أصحبه بين الأجر والأجرين وفقط، وينتهي الأمر عند هذه النقطة، ولا أرى هذا والله إلا من أعظم الغش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم!! والقول بالقول يذكر، واللبيب بالإشارة يفهم، وكل من رام التقويم والتصحيح، لابد أن يقبل النصح ويذعن!! وفي صحيح البخاري قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله؟.. زرعت تلك الصحوة المنقوصة بذلك، عداوة طويلة الأمد مع امتداد المجتمع بمختلف مكوناته، من مفكرين، وصحفيين، وكتاب، وأكادميين، وعباقرة، وساسة، وقادة، ومخترعات حديثة، كان من الممكن الاستفادة منها، وتجييرها جميعا لصالح الصحوة والدعوة إلى الله تعالى، ولكنها للأسف لم تفعل، وآثرت أن تعادي الجميع أو الأغلب، وكل ما هو جديد على الأمة المسلمة، وتفننت باستجلاب وانتزاع أحكام التحريم والتجريم من رحم الشريعة، في تكلف سافر، وصل مداه وأثره إلى جميع أقطار المعمورة حيث بلغته هذه الصحوة، من دول عربية وغير عربية، فصنعت العداوات معها بسبب وبغير سبب، ودخلت في النوايا والإرادات، وتميزت بالقسوة في العبارات في النصح، والمصادرة للآراء الأخرى، والتهكم  بالخصوم، والجرأة في التوقيع عن رب العالمين، في مسائل تقبل الخلاف، والتساهل في نقل الإجماعات جزافاً، وعدم قبول النقد والنصح من الآخرين، والتفاني والتذاكي والتفاصح في رده على قائله، وانتزاعها للنصوص انتزاعاً من الكتاب والسنة، وقد وجدت على ذلك أعواناً وأتباعاً ووقوداً من هؤلاء البسطاء والمسيَّرين للأسف، وكل ذلك لحكمة لا يعلمها إلا الله سبحانه!  ومن فضل الله تعالى فقد توعى كثير من أتباعها اليوم؛ ممن وفقهم الله تعالى وبصرهم بنور العلم لذلك، وربما تخسرهم الصحوة كما خسرت بعضهم بالفعل؛ إن لم يجري عليها سَنَن الإصلاح والتغيير، و لا نزال للأسف نتجرع مرارة هذا المشرب القديم حتى اليوم، و لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم !! وترانا اليوم؛ كلما برزت بيننا أي محاولات شجاعة، وجهود جريئة، لتصحيح المسار والإصلاح، حوربت وجهلت وسفهت، واتهمت حتى في نواياها بكل ممكن وغير ممكن، ومعقول وغير معقول، وتسلط عليها أنصاف المتعلمين، ووصفت بأنها دخيلة على الإسلام وأهله، وربما تصيدت لها الزلات باعتبارها جهوداً إنسانية، قابلة للصواب والخطأ كذلك، وربما سعوا لانتزاع الألقاب وإسقاطها عن روادها زعموا؛ والتي لا ينبغي السعي لها يوما- عند الصادقين من النصحة لهذه الصحوة- الساعين في إصلاحها وتوجيهها، فحسب المسلم رضا الله تعالى وجنته بهذا الإصلاح والتغيير، وليست الإساءة للمصلح بالتي تؤثر على مسار الإصلاح والتغيير المنشود، والكائن يوماً ما بإذن الله، لأن الألقاب لا تغني عن أصحابها شيئاً إن هم خذلوها وباعوها، وكل هذا بقصد إسقاط هذه الجهود،  أو الإضرار بها، وما يضرونها من شيئ، إلا أن يشاء ربي شيئاً، وسع ربي كل شيئ علماً﴿إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنا وَالَّذينَ آمَنوا فِي الحَياةِ الدُّنيا وَيَومَ يَقومُ الأَشهادُ﴾[غافر: ٥١].. إن تخيير الإنسان الصادق والحر، الباحث عن الحقيقة من خلال الكتاب والسنة اليوم في هذه الصحوة المنقوصة بين خيارين، يكون أحلاهما مر؛ لهي قاصمة الظهر والأمر المؤلم في الحقيقة .. فإما: أن يصفَّق للتيار الديني الذي يكتنفه اليوم، والتسليم للمدرسة بكل تفاصيلها ومضامينها ومكوناتها وأيدولوجياتها، وأن يقدم لها جميع القرابين و التنازلات عن الإصلاح والنقد البناء والتغيير المنشود للارتقاء بها، فيحظى بشعبية واحترام فيها، ومنزلة وتشييخ وولاية وأمن معيشي.. أو أن يقرر المواجهة فيستمر في النقد البناء والإصلاح؛ فيدفع ثمن هذه الخطوة غالياً من نفسه وأهله وماله، بحسب قوة تأثيره في الظرف الزمكاني الذي يعيش في كنفه هذا المصلح، -ولن يعدم بإذن الله  على الحق أنصاراً وأعواناً-.. وربما تأملوا ما عسى يمكنهم أن يتعاملوا به مع تلك الجهود وأصحابها، من حرب لها وتفكيكها، ولو باستعداء السلطة الزمنية عليها كما نطق به التاريخ قديماً وحديثاً.. ولا أعمم مقالي هذا بالتأكيد، بل أقول: إلا من رحم ربك وقليل ما هم، وفي الأمة خير عظيم ورجال صادقون إن شاء الله!! ولا ينبغي أن نغفل إنصافاً وعدلاً؛ عن طبيعة المراحل التي يمر بها أي مشروع إنساني؛ سواء كانت هذه الصحوة أو غيرها، من التدرج المرحلي، لحين بلوغ مرحلة النضج منه.. وإنما كان المقصود من هذا المقال؛ التأكيد على عدم إضفاء القداسة والشرعية، على كل ما ينسب خطأ لدين الله؛ من أقوال وأفعال وأحوال إنسانية، مهما كان صلاح أصحابها، ومهما بلغت رمزيتهم وأسماؤهم ومناصبهم وتجاربهم، ونواياهم الحسنة، في قضايا مناطها مبلغ علمهم واجتهادهم في أحسن أحوالها، وكل يؤخذ منه ويرد إلا محمد صلى الله عليه وسلم.. فالله الله في الحرص على التغيير والإصلاح المستمر، والنظر في الآراء الأخرى بشكل غير منقطع، والوقوف عليها بصدق، وتأملها بجد، بدون أحكام مسبقة، وإعطاء العقل حظه من النظر والاختيار والتمييز بينها، بتجرد تام، بعيداً عن أسماء القائلين بها،  وقبول الصواب منها بصدر رحب، وإصلاح ما يمكن إصلاحه فيها، ورد ما كان باطلاً محضاً أو غالباً منها، وذلك في غير قطعيات الشرع حقاً، وليس زعماً، وتربية الأجيال القادمة على ذلك، والحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها أخذها.. ولَك أيها القارئ الكريم..أن تتأمل رحلة البحث عن الحقيقة، لأبي الأنبياء إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-، عن قضية هي من أمات القضايا والمسلمات، وهي معرفة الله والتعرف عليه، وقدرته على الخلق والإيجاد، والإحياء بعد الموت، وذلك طلباً لطمأنينة قلبه، وقوة إيمانه، ﴿وَإِذ قالَ إِبراهيمُ رَبِّ أَرِني كَيفَ تُحيِي المَوتى قالَ أَوَلَم تُؤمِن قالَ بَلى وَلكِن لِيَطمَئِنَّ قَلبي قالَ فَخُذ أَربَعَةً مِنَ الطَّيرِ فَصُرهُنَّ إِلَيكَ ثُمَّ اجعَل عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنهُنَّ جُزءًا ثُمَّ ادعُهُنَّ يَأتينَكَ سَعيًا وَاعلَم أَنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ﴾[البقرة: ٢٦٠].. فياليت شعري ما عسى أقول أنا أو أنت بعد إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام القائل:(نحن أحق بالشك من إبراهيم)!! ولا يرد على  حديثي هذا أبداً؛ تملقي لغير الله، أو قصدي لسواه، أو طلبي لود جهة معينة، أو شخص متنفع لحظ هواه من هنا أو هناك بما أكتب، -كما قد أصنف عند البعض-، ولو تقاطع حديثي مع بعض ما يذكر في الساحة عرضاً من غير قصد، مع بعض مقالات المتسولين على موائد الإصلاح، وربما لم يكونوا من أهله في الواقع، من المتسلحين بالجهل والعناد، المتصيدين للأخطاء كيداً بالأخيار من هذه الأمة المرحومة، أو الذين يظهرون خلاف ما يضمرون، ففسادهم أظهر من أن يذكر، وحالهم أفشى من أن يتحدث عنه، كفاهم الله شرور أنفسهم و كفى المسلمين، وهدانا جميعاً.. وربما كان عدوك خير من يهدي إليك عيوبك.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. أسأل الله أن ينور بصائرنا، وأن يرينا الحق حقاً، وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا، وأن يرزقنا اجتنابه، وأن يتجاوز عنا تقصيرنا، وأن يتوب علينا.. والحمدلله رب العالمين.. أحمد حمودة حلمي الرأي كتاب أنحاء

مشاركة :