بعد أول لقاء لك باليابان تحتار أي زاوية تتخذها مدخلا لتنقل لمستمع، وأي المشاهد تختار لتعرضها عليه إذا كنت تريد أن تجسد له بعض القيم التي تعكس وقائعها مواقف حية ومشاهدة، ولكنني اخترت أسهل الحلول، وهي أن أحدث الناس هنا بما انطبع في ذهني ودار بخلدي من أفكار وأنا أذرع شوارع طوكيو متفرجا ومتأملا، فالشوارع هي العناوين العريضة لحياة المدن، وعن التعليم الجامعي عندهم، والأخيرة بحكم المهنة وداعي السفر. بالطبع، وكسعودي، فإن أول ما لفت نظري هو أن جميع الوظائف الخدمية في اليابان يقوم بها يابانيون ولا وجود للعمالة الأجنبية، ففي الفندق الذي نزلت فيه كل العمالة يابانية وحتى عمال النظافة في الشوارع، والعامل هنا يعامل بنفس الاحترام الذي يعامل به أعلى موظف دولة أو قطاع خاص، تكاد لا تجد طبقية في هذا المجتمع، وربما يكون هذا ما ساعدهم في المحافظة على تقاليدهم المشبعة بالاحترام السلوكي وكأنه بروتوكول يتلقونه تلقينا في المدارس. والعمل عند الياباني يحتل مكان الصدارة في القيم الاجتماعية، فلا سن ولا زمن أو وقت للعمل، فالجميع وبمختلف الأعمار وفي كل الأوقات لا يتوقفون عن العمل، ويلاحظ زائر اليابان أن الإضاءة في المرافق العامة لا تطفأ بعدما تعارفنا عليه بوقت الدوام، والحكمة في ذلك أن الموظف قد يجد نفسه في حاجة لأن يعمل بعد أوقات الدوام، أو تطرأ أفكار له خاصة بالعمل وهو في المنزل، فيستطيع أن يخرج متجها إلى مكان عمله ليعمل، فالموظف لا يحاسب بمواعيد الدخول والخروج، وإنما يحاسب على الإنجاز، ولا أظننا نستطيع تطبيق هذا عندنا، وإلا لن يحضر أحد إلى مكان عمله دون أن ينجز شيئا، لأن العمل عندهم يحتل مكان الصدارة في القيم، بمعنى أن الياباني لا يعمل لكي يعيش، بل يخيل إليك أنه يعيش ليعمل، وأزعم أنني وعلى كثرة ما سافرت وعايشت الشعوب لم أجد شعبا يقدس العمل والنظام مثلهم. ورغم هذا تجد بين كبار السن من يشتكون ويتذمرون من الغزو الثقافي الغربي، والأمريكي خاصة، الذي بدأ ينشر بين الشباب الثقافة الاستهلاكية الأمريكية، والاهتمام، أكثر من اللازم، بالموضات المتلاحقة في الملبس والعادات والأخلاقيات، رغم أنك كزائر للبلد لا تلحظ تأثيرا ملحوظا لنمط الحياة والثقافة والتقاليد هذا الذي يتحدثون عنه بخوف، فالنمط الياباني التقليدي هو السائد في كل شيء، يتبدى لك واضحا في السلوك المتماثل بين الكبار والصغار..
مشاركة :