برحيل فريدي ميركوري، خسر عالم الموسيقى موهبة عظيمة وفناناً متكاملاً يملك صوتاً باريتونياً ويتمتع بكاريزما مثالية على المسرح. ربع قرن مرّ على وفاة البريطاني الذي وهب العالم فناً راقياً ما زال تأثيره جلياً عبر الأغاني الخالدة، كلمات وألحاناً، لم نسمع مثل رقيّها منذ وقت طويل. رحل ميركوري، المؤسس الرئيس لفرقة الروك البريطانية «كوين»، في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1991 عن 45 سنة، بعد يوم واحد من اعترافه للصحافة العالمية بأنه مصاب بالإيدز الذي تسبب بوفاته. لم يلِق به الموت، فهو كان يحب الحياة وكل ما فيها وكان ذلك واضحاً من خلال حياته اليومية و «المشاهد المسرحية» التي كان يقدمها في أغانيه المصورة وفي غالبية حفلاته. وهذا الأمر ليس غريباً عن أتباع الزرادشتية التي تنطوي فلسفتها على التمتع بالحياة ضمن حدود المقبول، وهذا ما كان فريدي يقوم به. فهو كان زرادشتياً تعود أصوله إلى الفارسية - الهندية، لكنه ولد في المستعمرة البريطانية آنذاك زنجبار، وهي اليوم جزء من تنزانيا، باسم فاروخ بولسارا في 5 أيلول (سبتمبر) 1946. أمضى ميركوري طفولته في الهند وبدأ تعلم العزف على البيانو عندما كان في السابعة من العمر. وعندها، ظهرت موهبته الموسيقية، إذ كان يعيد عزفاً ما يسمعه على الراديو في شكل فوري ومن دون أخطاء في اللحن. وفي مدرسة سانت بيتر للفتيان في مومباي، شكل فرقة موسيقية عندما كان في الثانية عشرة وبدأ يسمي نفسه «فريدي» ويطور موهبته. وعندما قامت الثورة في زنجبار عام 1964 وقتل فيها آلاف العرب والهنود، هاجرت العائلة إلى بريطانيا حيث أكمل فريدي تحصيله العلمي ونال شهادة في الفنون والتصميم الغرافيكي، علماً أنه استغل موهبته ومهارته في هذا المجال ليصمم شعار فرقة «كوين» التي أنشأها لاحقاً وضمّت عازف الغيتار براين ماي ولاعب الدرامز رودجر تايلور وعازف الباص جون ديكون. برع ميركوري في كل المجالات الفنية التي خاضها. وكان يملك صوتاً يتميز بالقدرة على الانتقال من الطبقات الصوتية الدنيا إلى الطبقات العليا وبالعكس بسهولة كبيرة. كما كان يملك موهبة في العزف على آلات عدة، أهمها البيانو والغيتار بنوعيه الكلاسيكي والكهربائي، برزت خصوصاً في حفلاته المباشرة. وإضافة إلى الغناء والعزف، كتب ميركوري أغاني كثيرة للفرقة ولم تكن مجرد أغان، بل كانت من الأنجح والأبرز ماضياً وحاضراً، أهمها Bohemian Rhapsody وWe Are the Champions وBicycle Race و Don’t Stop Me Now. وبرزت أيضاً موهبة التمثيل التي يملكها فريدي من خلال الأغاني المصورة التي أظهرته ممثلاً مسرحياً من الطراز الأول، خصوصاً أنه كان يبتكر المشاهد ويصمم الأزياء الخاصة بها. امتلك ميركوري شخصية غريبة بعض الشيء على صعد مختلفة. فعلى رغم الجرأة التي كان يظهرها أمام الجمهور على المسرح حيث بدا دائماً استعراضياً في شكل مبهر و «فاقع»، فإنه كان في حياته الخاصة انطوائياً وخجولاً، وحتى أنه في مقابلاته القليلة جداً، كان دائم التوتر ويخشى النظر إلى الكاميرا. أما علاقاته العاطفية فكانت ملتبسة. فقد أغرم بماري أوستن التي تعرف إليها من خلال ماي وأقام معها سنوات في غرب كنزينغتون في لندن، وعاشا قصة حب مثالية كانا يحسدان عليها. إلا أن رومانسية الثنائي لم تكتمل. فعام 1976 أخبر فريدي «حبيبته الأبدية» بحقيقة صادمة «قتلت» العلاقة العاطفية لكنها «ولدت» علاقة صداقة استمرت حتى اليوم الأخير من حياة ميركوري. وتلك الحقيقة كانت عن ميوله الجنسية، فقد أخبرها يومها بأنه مثلي وأنه على علاقة برجل. شعرت ماري بحزن كبير إلا أنها قررت أن تبقى بجانب رفيقها وتدعمه. قال عنها فريدي في إحدى المقابلات عام 1985: «كل أصدقائي يسألونني لماذا لم يقدر أحد منهم أن يحل محل ماري. هذا أمر مستحيل. هي صديقتي الوحيدة ولا أريد أحداً غيرها. كانت زوجتي وصديقتي وحبيبتي. نحن متفاهمان جداً وهذا كل ما أريده». أحبها كثيراً واعتبرها جزءاً لا يتجزأ من حياته. كتب لها أغاني عدة بينها Love of My Life التي يقول لها فيها أنها حبه الوحيد ويرجوها أن تبقى بجانبه. وبقيت. عاش ميركوري حياة صاخبة فكان يقيم يومياً حفلات في منزله، يشعر من يرتادها بأنه في بلاد العجائب. فحفلات فريدي لم تكن تقليدية وكان من يحيونها غير تقليديين، من أقزام يقدّمون المخدرات للضيوف إلى المصارعات العاريات اللواتي يمتعن الحاضرين بعروض حية. كانت تلك الحياة بالنسبة إلى فريدي مثالية لكنها كانت أيضاً السبب الذي أدى إلى نهايته. فخلال الحفلات في منزله وفي الأماكن التي كان يرتادها، كان يتعرف إلى شركاء جدد ويقيم معهم علاقات من دون معرفة أسمائهم في بعض الأحيان، مع أن الأيدز كان ينتشر وقتذاك بين الجنسين في شكل كبير. عام 1986 خضع فريدي لفحص دم لمعرفة ما إذا كان مصاباً بالفيروس الفتاك، لكن النتائج كانت سلبية، وفقاً لمزاعم شريكه جيم هوتن الذي كشف في وقت لاحق أن ميركوري علم بإصابته بالإيدز عام 1987. أبى فريدي أن يعترف بمرضه، وأبت وسائل الإعلام أن تتركه وشأنه. فبدأت تبث الصحافة أخباراً تدور حوله وحول مرضه، ناشرة في كل مرة صوراً يظهر فيها قبل العام 1986 وبعده، في محاولات لإثبات صحة مزاعمها. وفي ليلة 24 تشرين الثاني (أكتوبر) 1991، توفي فريدي نتيجة التهاب في الشعب الهوائية. موت ميركوري لم يكن عادياً، فهو أول نجم كبير من عالم الروك يموت بتداعيات الأيدز، ما جعله مهماً في تاريخ هذا المرض. فبعد وفاته، أنشأ عضوا فرقة «كوين» ماي وتايلور ومديرها جيم بيتش جمعية Mercury Phoenix Trust التي تعنى بجمع المال والتبرعات لإجراء البحوث حول الإيدز، وأعلنوها خلال حفلة تحية لذكرى فريدي عام 1992 شارك فيها أبرز نجوم الغناء، منهم روبرت بلانت وإلتون جون وديفيد بوي. ... رحل ميركوري، لكنه ترك وراءه إرثاً موسيقياً كبيراً ما زال حياً في ذاكرة كل من أحبه من الجيل القديم ومن تعرف إليه وعلى صوته من الجيل الجديد. ودليل «بقائه» أن أعماله ما زالت «جديدة» تبثها الإذاعات ويعيدها مغنون كثر، وتشكل علامات فارقة مضيئة في موسيقى الروك.
مشاركة :