البريد الإلكتروني لكل صحافي وإعلامي ومنشغل بالشأن العام يئن يومياً تحت وطأة تواتر عشرات الرسائل المحملة بالملفات والمعبأة بالإدانات والمعبقة باللعنات الموجهة على رأس النظام والحكومة، وأحياناً الشعب الساكت. ولولا انشغال الإعلام الغربي بفوز صادم لدونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، وتوغل صارخ لرجب طيب أردوغان في دول الجوار، وسير على غير المرجو للأحداث في سورية، ونية مفاجئة لأنغيلا مركل لإعادة الترشح، ومتابعة حثيثة لانتخابات اليمين في فرنسا، ومعايشة يومية للاقتصاد في بريطانيا بعد «بريكزيت»، لكانت سيرة «الحريات المهدورة» و «الانتهاكات المفضوحة» في مصر على الصفحات الأولى وفي القلب من النشرات المحمومة. أجواء محمومة في أوقات معلومة تسيطر على مؤسسات بعينها وجماعات ومجموعات وائتلافات وكيانات أكثر من غيرها في الجانب الغربي من العالم، وبعضها في الطرف الشرق أوسطي، وذلك في أعقاب كل تحرك حقوقي أو تغير قانوني أو عصف نيابي ذهني أو فكر حكومي إجرائي، وبالطبع كل حدث أمني فجائي يوجه إلى مجتمع الحقوقيين بمنظماته وأفراده أو من ينوب عنهم أو من يشبه نشاطه عملهم وفكرهم والغاية من وجودهم. وما الأوقات الحالية، من قوانين مثيرة للجدل تخص الجمعيات الأهلية، وإغلاقات مثيرة للغضب لمنظمات حقوقية، وأحكام قضائية تتعلق بشكل غير مباشر بحرية التعبير والرأي، أو تعكس صراعاً مكتوماً بين الأمن والحريات، أو تتصل بـ «الإخوان» باعتبارهم فصيلاً سياسياً ترى جمعيات أنه يتعرض للظلم والقهر، أو الثوار باعتبارهم قطاعاً وطنياً يقع تحت طائلة الرفض الشعبي أو الاضطهاد الرسمي أو المطاردة الأمنية أو جميعها وغيرها، إلا أوقات معلومة تعد من المواسم المعروفة لإطلاق البيانات والكشف عن التصريحات والإعراب عن القلق والمطالبة إما بتوقيع عقوبات دولية أو النظر بعين الروية إلى هذه التصرفات «الهوجائية». لكن تصرفات هؤلاء «الهوجائية» هي إجراءات أولئك التأمينية وهي أمور آخرين الداخلية التي لا ينبغي لأحد التدخل فيها أو التبحر في أغوارها أو إدلاء الرأي حول مدلولاتها. الموجة الحالية من دورة الإجراءات المصرية المؤدية إلى فورة الاعتراضات الخارجية وموجة الاستهجانات من قطاعات داخلية ثم معالجة إعلامية تمسك بالعصا من المنتصف في محاولة لامتصاص غضب الغاضبين مع الدق على أوتار «ممنوع التدخل في شؤوننا» تليها متابعة شعبية لجميع اللاعبين ليست الأولى من نوعها، لكنها هذه المرة تكشف الكثير من التغيرات والتحولات التي طرأت على الرأي العام المصري وما آلت إليه أوضاع الحقوق وأولوياتها بعد ما يقرب من ست سنوات من ثورة «العيش والحرية». «حرية المجتمع المدني المهدورة» عبر موافقة البرلمان على مواد قانون تنظيمها (وفي أقوال أخرى خنقها أو وأدها) فجرت براكين بيانات التنديد وتصريحات التبكيت. عدد من المنظمات والجمعيات العاملة في مصر أخذ على عاتقه مهمة إصدار بيانات الشجب في شكل مكثف على مدار الأيام القليلة الماضية. فالقانون الجديد - بحسب البيانات - «يقضي فعلياً على المجتمع المدني ويحيل أمر إدارته على الحكومة والأجهزة الأمنية»، وتعامل البرلمان مع المجتمع المدني يعتبر أنه «عدو تحاك الخطط والقوانين السرية للقضاء عليه»، بل إن القانون الجديد «أشد قمعاً وعداء للجمعيات الأهلية ولفكرة التطوع والمبادرات الجماعية... وسيكون السبب في مذبحة مؤكدة للجمعيات الأهلية العاملة في مجال التنمية والخدمات الاجتماعية المشهرة بالفعل». وتمضي البيانات الشاجبة صابة غضبها على تدشين الكيان المسمى بـ «الجهاز القومي لتنظيم عمل المنظمات الأجنبية غير الحكومية» والمكون من ممثلي ثلاث جهات أمنية، إضافة إلى ممثلي وزارات الخارجية والعدل والتعاون الدولي والتضامن الاجتماعي والبنك المركزي ووحدة مكافحة غسيل الأموال وهيئة الرقابة الإدارية، ما يعد ثكنة أمنية رقابية قابضة على رقبة الحرية. رقبة الحرية التي تتعرض للخنق كما يرى بعضهم، وفي أتم صحة وأفضل حال كما يرى آخرون، وليست على قائمة الأولويات أصلاً في عقيدة فريق ثالث، تجد نفسها تحت المجهر بصور عدة هذه الأيام. فمن أوامر منع سفر لشخصيات حقوقية ومجريات محاكمات لشخصيات محبوسة وأحكام صادرة على نقيب الصحافيين لـ «تستره» على مطلوبين أمنياً ومنع غير معلن لإذاعة حلقات تلفزيونية بعينها تستضيف شخصيات مثيرة للجدل السياسي، وأقاويل عن ظلال أمنية على الأجواء التلفزيونية والصحافية، وإشاعات عن استقطاب شخصيات إعلامية لتكون داعمة للنظام وغيرها من أجواء تتأرجح بين الحدوث الفعلي على أرض الواقع والتضخيم العنكبوتي على أثير الإنترنت والعزف الأوركسترالي في الأجواء الحقوقية الغربية يجد المصريون أنفسهم في حيص بيص معلوماتي وتضارب غير مسبوق في المواقف والعقائد والمناهج. «منهج النفخ في النيران وبعد إخماد أسبابها لا حس أو خبر بات مفضوحاً»، كتب أحدهم على صفحته في «فايسبوك»، في معرض نقاش عن سبعة أيام فصلت بين صدور قرار تجميد حساب «مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب» إلى حين توفيق الأوضاع وفقاً لقانون الجمعيات الأهلية وبين صدور قرار آخر برفع التجميد بعد سبعة أيام. «وقت صدر قرار التجميد هبدت جماعات حقوقية الأرض ورزعت عن القرار القمعي والإجراء الانتهاكي والتحرك الديكتاتوري. وحين صدر قرار رفع التجميد لا حس أو خبر». ويبقى حس المواطن العادي مؤشراً على المزاج الشعبي العام. ربما يكون الإنهاك الزمني على مدى ست سنوات، أو الإجهاد الاقتصادي بسبب توحش الدولار وغلاء الأسعار، أو الضجر والصخب حول مبادئ يراها بعضهم رفاهية غير محسوسة أو سطحية في غير وقتها أسباباً وعوامل تدفع القاعدة الشعبية إلى النأي بنفسها بعيداً من الساحة الحقوقية برمتها. «كفى. سواء كان أولئك المتضررون ثوريين أو مظلومين أو إخواناً أو عملاء أو وطنيين أو أجانب أو عفاريت مش وقته خالص». بعد ست سنوات من ثورة الحرية، صارت قضايا الحرية «في غير وقتها» وأموراً مثيرة للضجر، وإن اختلفت الأسباب وتراوحت العوامل ووقف الجميع على ساحة التراشق بالاتهامات.
مشاركة :