الباحث إسلام البحيري يصفه البعض بالمفكر التنويري وأنه يسعى لتجديد الخطاب الديني، ويتهمه خصومه بالتشكيك في ثوابت الدين والإساءة للأئمة الثقات. العربهشام النجار [نُشرفي2016/11/26، العدد: 10467، ص(12)] إسلام البحيري الباحث الجامح هل أنضجته تجربة السجن القاهرة- مجمل الطرح النقدي للتراث الذي قدمه الباحث المصري الشاب إسلام البحيري، عبر الفضائيات قبل سجنه، بمعزل عن فقرات التجاوز والتطاول اللفظي، ظل قاسمًا مشتركًا بين العلماء والمفكرين الذين اهتموا بملف الإصلاح الديني وتجديد التراث حتى من داخل مؤسسة الأزهر ذاتها. ولم يكن مستحيلًا احتواء البحيري من قبل علماء الأزهر بتصحيح مساره وإلزامه بأصول وأخلاقيات وأدوات النقد الموضوعي للاستفادة من جهوده في هذا المشروع الضخم، لكن تنافس الجهات والتيارات المختلفة على نيل شرف إسناد المهمة المصيرية إليها، بالإضافة إلى الأضغان القديمة بين المثقفين، من التيار المدني من جهة، والأزهر والمجال الديني بعمومه من جهة أخرى، رجّح سيناريو تغييبه عن المشهد الذي ظل على جموده، ليخرج الباحث المتمرد مؤخرا من محبسه مزهوًا ومتحديًا. يصفه البعض بالمفكر التنويري وأنه يسعى لتجديد الخطاب الديني، ويتهمه خصومه بالتشكيك في ثوابت الدين والإساءة للأئمة الثقات. بداية المشوار كانت من إحدى قرى مركز ساقلته بمحافظة سوهاج في صعيد مصر، الذي شهد مولد أكثر التنظيمات الإسلامية تطرفًا في سبعينات القرن الماضي، وبعد حصوله على الليسانس من كلية الحقوق، وعمله لفترة بوزارة الأوقاف الكويتية ونيله الماجستير في “طرق التعامل مع التراث” من جامعة ويلز البريطانية، لم ينل طموحه في الشهرة بكتاباته في الصحف والمواقع، وهي مرحلة الطرح النقدي التقليدي. بدأت الشهرة مع مرحلة الإثارة منذ عام 2002، من خلال المناظرات الفضائية الساخنة مع مشايخ التيار السلفي، ثم قيامه بتقديم برنامج على إحدى الفضائيات الشهيرة، حاشدًا جملة من التعبيرات المسيئة وجرعة زائدة من التجاوزات، من أجل أن يبدو مختلفًا ومميزًا عمّن سبقه وعاصره في هذا الميدان. كان إسلام البحيري في سباق مع الزمن، فالتيار المدني مشتبك مع إشكاليات وملفات الحكم الإخواني وصعود السلفيين، وبعد ثورة 30 يونيو 2013 أصبح تجديد الخطاب الديني مشروع دولة مع تنامي الإرهاب وشيوع التكفير والتطرف، وهو لا يملك النضج الفقهي الكامل، فلا يزال في مقتبل شبابه وعمله البحثي، ويفتقر للمشروع النقدي المتكامل، كمشاريع محمد أركون ومحمد عابد الجابري وغيرهما. يفتقر البحيري كذلك لحضور وكاريزما المجدّد والمصلح الديني الرصين، مثل محمد عبده، أو مكانة المثقف التنويري كجابر عصفور ونصر حامد أبو زيد وفرج فودة، وبينما نجح إبراهيم عيسى كإعلامي أن يغلّف طرحه المشابه بروح الدعابة والقفشات، لم يجد البحيري سوى حدة التعبيرات والمبالغة في التطاول والتجاوز اللفظي ليثبت أنه حاضر في الساحة ويلفت إليه الأنظار، فسهل النّيل منه وأوقف برنامجه وسجن بتهمة ازدراء الأديان قبل أن ينال عفوًا رئاسيًا أثار جدلًا كبيرًا. البحيري كان في سباق مع الزمن. فالتيار المدني مشتبك مع إشكاليات وملفات الحكم الإخواني وصعود السلفيين، وبعد ثورة 30 يونيو أصبح تجديد الخطاب الديني مشروع دولة استخفاف بمشروع القرن مهمة تجديد التراث لا مفرّ منها لإنقاذ الأمة من متاهات العصور الوسطى وظلام التطرف والتخلف والإرهاب ودوامات الحروب المذهبية والأهلية، وهي ضرورة حضارية لترسيخ مفهوم المواطنة بالمعنى المدني الحديث، ونشر الفهم المتسامح المستنير للدين، وهي أهداف جميع من تصدوا لتلك المهمة، لكنهم، سواء المنتسبون للتيار المدني أو الديني، دافعوا عن آرائهم بأساليب علمية ومنهجية رصينة وبلغة راقية لا تحقر التراث ولا تقلل من شأن مفكر من المفكرين الأوائل، ولم يتعالوا على الإسلام ورموزه وأشادوا بدوره كدين وتراث فكري عظيم. غربلة كتب الحديث والفقه سبق إليها مفكرون وعلماء، سواء منها ما يتناقض مع القرآن أو مع المنطق والعقل؛ وتولّى مفكرون معاصرون تصحيح المفاهيم والتصورات في عدد كبير من القضايا التي أثارها البحيري، مثل حدّ الردّة وحقوق المرأة والتعامل مع غير المسلم وقضايا الجهاد والشريعة والحاكمية وغيرها، وهي جهود منضبطة بالمنهج العلمي الموضوعي وبأخلاقيات هذا الفن. إذا كانت هناك مطالبات بالتجديد وإعمال العقل ونشر تراث ابن سينا والفارابي وابن رشد ومحمد عبده وطه حسين وآخرين، فهذا لا يعني إلغاء وحرق البخاري وابن تيمية والغزالي وفقهاء وعلماء الأمة العظام، بل طرح إنتاجهم للنقد المؤسسي الموضوعي لفصل رواسب ومثيرات التكفير التي أدخلت العالم الإسلامي في حروب مفتوحة مع العالم كله. مهمة التجديد سير مع التراث من الداخل وبشكل ديالكتيكي لبيان ضرورته التاريخية أو الوظيفية الزمانية التي أداها في لحظة ما، ثم بيان كيف من الممكن أن يتحول لعكسه في العصر المعاش، فما كان مقبولًا يصبح بمرور الزمن دوغمائيًا قامعًا للعقل، متحولًا إلى قشور وقوالب متحنطة، وعلى المجدد المجتهد التخلص من تلك الرواسب والقشور والنفاذ لجوهر الدين ليعود إلى معناه الحي ومنبعه الأصلي. وهي مهمة عريضة عويصة لثقل الماضي ولثقل التراث وتغلغله في أعماق الشعوب، فالنضال هنا في مواجهة ألف سنة من التخلف وليس سنة حكم أو ثمانين سنة تسطيحا للعقل وتوظيفا للدين في مشاريع سلطوية، قدمت من الدين قشوره وإكراهاته وقيوده وطرحت جوهره الروحاني والأخلاقي، لذا لا بد من التجرؤ على تنقية التراث من رواسب اكتسبت قداسة وهمية بحكم الزمن المتطاول ليتحرك الناس بعقول العصور الحديثة لا عقول العصور الوسطى. الخلل مشترك بين التنظيمات المتطرفة والباحثين المحدثين ويكمن في الخلط بين الفتوى الزمانية وأصول المنهج والقواعد الكلية خلل مشترك الخلل مشترك بين التنظيمات المتطرفة وباحثين محدثين كالبحيري؛ ويكمن في الخلط بين الفتوى الزمانية وبين أصول المنهج والقواعد الكلية، فأصول المنهج ثابتة والمتغير هو تنزيل الأحكام على الوقائع وفقًا لتلك الأصول وباعتبار المقاصد والنظر إلى المآلات بحسب اختلاف البيئات والأزمنة. لذلك قال أسامة الأزهري المستشار الديني لرئيس الجمهورية وأحد من تولوا مناظرة الباحث إسلام البحيري “نختلف مع البحيري في أسلوب تناول الأئمة والصحابة والتراث الإسلامي، حيث أنه انتقد التراث الإسلامي بنفس طريقة الشيخ سيد قطب، في توجيه النقد للأئمة الأربعة دون مراعاة قيمتهم أو جهودهم في البحث والاجتهاد الديني.. والبخاري ومسلم يتربعان على قمة الهرم المعرفي لدقة الأحاديث.. وإسلام مثل الذي قال إن الأوكسجين تم اكتشافه سنة كذا، فقال ماذا كان يتنفس الناس قبلها؟”. مهمة تجديد التراث ونقد الفكر الإسلامي القائم لا يمكن التغاضي عن مباشرتها أو إهمالها وعدم مواجهتها إيثارًا للسلامة ولعدم إيقاظ الفتن كما حدث في الخمسينات والستينات من القرن الماضي وقت هيمنة الفكر اليساري، وهو ما أنتج عنف وإرهاب تلك الحقبة، كما أن التصدي لها بغير أدواتها وضوابطها العلمية والأخلاقية وسط حالة من السيولة والمنافسات العبثية بين المؤسسات والتيارات الفكرية من شأنه أن ينتج عنفًا وإرهابًا وتطرفًا أشدّ، عندما يتجاوز البحيري ولا يكتفي ببيان ما يراه خاطئًا لدى العلماء القدامى في المنهج أو الفتوى أو نقل الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويلصق بهم تهم الإرهاب وأوصاف التخريف وغيرها. هناك فرق بين من يقدّم نقدًا علميًا نزيهًا، ومن يعتدي على من سبق، حيث وصف البحيري أطروحاتهم الفكرية بأنها “صندوق قمامة أو عفن”، ونادى “بقطع أيدي أئمة العلم وأرجلهم، حيث جعلوا الكذب منهجًا، واتخذوا الخداع شرعًا”. وهذا الطرح يفتقد لأصول وضوابط النقد العلمي ويدمر مشروع تجديد الخطاب الديني، وينتج في المقابل المزيد من التطرف ويمنح الجماعات الإرهابية مبررات تجنيد أعضاء جدد بزعم أن الدولة ترعى مشاريع هدم التراث وتشويه تاريخ الإسلام ورموزه. ورقة خاسرة يفتقر البحيري لحضور وكاريزما المجدّد والمصلح الديني الرصين التيار المدني فضلًا عن كونه يعتبر نفسه طرفًا أصيلًا في مشروع التجديد، فهو يحاول توظيف المشاكل المزمنة التي تعاني منها المؤسسات الدينية الرسمية وعدم إحراز تقدم ملموس في هذا الملف على مدى ثلاث سنوات للقيام بدور رئيسي في فضاء المشهد التنويري، تمكّنه من الحفاظ على مكتسباته وحضوره في الواقع الثقافي بصفة عامة، وهو دور حرص على القيام به بالدفع برموزه في مجال الكتابة والتأليف والإعلام، لكن هذه هي المرة الأولى التي يهاجم فيها التراث الإسلامي بشكل يمسّ مشاعر العامة من شخصية محسوبة على هذا التيار. لذلك تبنى التيار المدني والمثقفون مشروع وجهود فرج فودة ونصر حامد أبو زيد وغيرهما، حيث كانوا يحترمون الأساليب العلمية في البحث الديني، ودافع عن مشاريع رموز مثل طه حسين وخالد محمد خالد وغيرهما ممن تحلوا بالموضوعية وعدم العناد فإذا تبين لهم خطأ طرح ما وجموحه أعادوا النظر به وقاموا بتصحيحه، وهي سمة غالبة في مسيرة تعاطي رموز التيار المدني ومفكريه مع قضايا الشأن الإسلامي بصفة عامة ولم تشذّ عنها إلا حالات نادرة. وتكبد التيار المدني خسائر باهظة في المشهد السياسي، على خلفية الاستقطاب الذي استغله السلفيون والإخوان لإحراز مكاسب غير مستحقة في المشهد السياسي باللعب على نغمة عداء العلمانيين للإسلام وتهجم بعض رموزهم من الإعلاميين والباحثين على ثوابته ورموزه، وكان التصويت في الاستحقاقات الانتخابية قبل ثورة 30 يونيو يتجه لصالح الإسلاميين عقابًا للتيار المدني، الذي شجع قطاع منه على الطعن في الثوابت الدينية، مع أن رؤية العلمانيين السياسية المحضة كانت هي الصواب والأكثر واقعية والأقرب لتحقيق الإصلاح السياسي، وهو ما أثبتته الأحداث لاحقًا. شبح الشيعة إجمالًا لم تكن يومًا هذه القضايا التي أثارها الباحث إسلام البحيري، ومعه الإعلامي إبراهيم عيسى، شاغل التيار المدني بشأن ملف التنوير والتجديد، حيث انشغل رموز هذا التيار بقضايا الحريات والدولة المدنية والديمقراطية ولم يكونوا مهمومين بتشويه الأئمة الأربعة مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل، والتشكيك في بعض الأحاديث المروية عن الرسول، كما لم يعهد عن المثقفين هجوم مركّز على شخصيات بعينها من الصحابة والتابعين ورموز التاريخ الإسلامي، مثل عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي، فضلًا عن عدم اهتمامهم بمهاجمة كتب الحديث، وهي ملفات تهم الشيعة في إيران قبل غيرهم وهي ذاتها نفس الشبهات التي تردّد كوسيلة للطعن في مذهب السنة لينفض العامة عنه ويسهل اختراقهم بأفكار ورؤى مناهضة. وهو ما يدفع البعض للربط بين نشاط الإعلامي إبراهيم عيسى وإسلام البحيري، ويبرّئ ساحة العلمانيين من تبنّي هذا الطرح المتصادم لثوابت المصريين، ويدفع للتساؤل عن جهودهما في نقد كتب التراث الشيعي، وهو ما لم يحدث، وعن دافع الهجوم المكثّف في مسارات تتطابق مع نهج الشيعة في التطاول على تراث أهل السنة ورموزهم التاريخية، لا سيما تلك الرموز التي يناصبها الشيعة العداء لأسباب معروفة، خاصة البخاري وابن تيمية، بالنظر إلى الخبرة الواسعة للتيار المدني المصري والتي تحميه من الوقوع في فخ تسطيح مثل هذه القضايا والتعامل معها برعونة، إذا تعلق الأمر بما من شأنه تغذية تيار التشدد والتطرف كردود أفعال سلبية على استهداف التراث، فضلًا عن الخسائر في المشهد السياسي. مهمة تجديد التراث ونقد الفكر الإسلامي القائم لا يمكن التغاضي عن مباشرتها أو إهمالها وعدم مواجهتها إيثارًا للسلامة ولعدم إيقاظ الفتن عوائق الإصلاح لا يمكن للمجتمعات العربية أن تتقدم قبل إنجاز مشروع التجديد للتخلص من القشور الميّتة والتراكمات المتحنطة التي تعرقل الانطلاق الحضاري، وليس كل الماضي عبئا على المستقبل والحاضر بل فقط رواسبه المتكلسة، أما جوهر التراث العربي والإسلامي من قيم روحية وأخلاقية ومقاصدية وقيمية فسيبقى، ولا غنى عنه في مسيرة الأمة نحو التميز والنهضة، وهي مرحلة انتقالية إجبارية لا مفر منها لتتحقق الولادة الجديدة. ولا يستطيع فرد أو جهة أو تيار أو مؤسسة تحمله وحده، وغير مسموح التعاطي مع هذا الملف بجموح وتهور وعشوائية وخفة، فالقضية ليست مقتصرة على انحراف تنظيمات أيديولوجية عن الجادة، إنما الأمر متعلق بمفاهيم تغلغلت وعششت في أعماق المجتمعات وعقول الشعوب على مدى قرون، وإن لم يعالج هذا الملف بأسلوب مؤسسي وعلمي وبتنسيق وتعاون مع مختلف الجهات والتيارات والمؤسسات، ستنفجر العقد المكبوتة المتوارثة في الوجوه كالإعصار وتجرف في طريقها كل شيء. يجب الحرص على الموضوعية والأخلاق الراقية، وحفظ مكانة العلماء والأئمة، ويشكر للسابقين إنجازاتهم المناسبة لعصورهم فهي كثيرة وجليلة لكن ليست مناسبة لهذا العصر، ولكل عصر رجاله ومشاكله وحلوله، ولن تنجح المهمة المصيرية ما دامت المؤسسات المعنية بها تتنافس على القيام بها دون امتلاك استراتيجية متكاملة بآليات واضحة ومحددة، واستمرار توتّر العلاقة بين المثقفين والأزهر سيمنح بعض النماذج الجامحة فرص الحضور وطرح الآراء الحادة غير المنضبطة، ما يضر بالتجربة برمتها ومواصلة الدوران في الحلقة المفرغة، ويجعل الكلمة المسموعة لطرفي التشدد حيث التنظيمات المتطرفة من جهة، والداعون للتغيير والإصلاح بطريقة الهدم والحرق والإلغاء الكامل من جهة أخرى. :: اقرأ أيضاً أسامة محمد كاتب ومخرج سينمائي سوري يحصد جائزة البحر المتوسط إي إم درايف آلة تنهي كل مشكلات الطاقة في السفر
مشاركة :