( لروح حسن الحارثي رحمه الله، الذي كان يلح علي كثيراً للكتابة في صحيفة( أنحاء)، عشقه وحلمه، فوعدته بالكتابة، ولكن كثرة الانشغالات حالت دون ذلك. وربما الآن جاء وقت الوفاء بذاك الوعد وإن جاء متأخرا أكثر مما ينبغي). قراءة في كتاب القرآن وكفى لأحمد صبحي منصور. . ينطوي متن كتاب( القرآن و كفى)، على إشكالية قديمة و متجددة ، و هي سؤال المرجعية في الاسلام ، متضمنة أطروحة مفادها أن القرآن هو النص المركزي الذي يتحتم علينا العوده اليه وطرح ماعداه ، وخاصة مدونة الحديث النبوي التي يعتقد الكاتب أنها ساهمت بشكل فعال في تزييف الوعي المسلم، بترويج ما يمكن أن يسمى خطابا زائفا يتعارض مع صريح النص المقدس. في قرأتي هذه ساتجاوز متن الكتاب الذي لا يخلو من جملة من الاشكالات الحقيقية، المتمثلة في أن الكتاب لم يُنجز وفق منهج علمي رصين يمكن الاطمئنان إليه، وإلى النتائج المنبثقة عنه. إن نؤلف الكتاب وللأسف الشديد يسير في الكتاب بلا زمام ، و لا خطام ، فلا منهج ، ولا إحالات ، ولا حتى هوامش ، ولا فهرس ، وإنما كلام مرسل يبقى في مستوى البيان العاطفي غير المقنع في الدفاع عن القرآن كمرجعية واحدة ووحيدة للمسلم، بالاضافة إلى أنه يعتمد في الكتاب على التحشيد النصي العاطفي غير المبرر. لقد تعمدت اختيار مفردة ( تحشيد نصي ) حتى لا أقول إرهاب نصوصي ، مارسه الكاتب ضد المتلقي ، ليقنعه بعدم جدوى مدونة الحديث، ثم لم يكتف بعملية التحشيد تلك ، بل تعمد الطعن في مدونة الحديث النبوي، وشخص( البخاري)، الذي وصفة بالكذاب ، الذي يمارس الكذب المتعمد على الرسول ( ص )، وهذا تعد صارخ على أحد رموز التراث الإسلامي ليس فيه من العلمية شيء ، فالكل يعرف أن مدونة الحديث فيها من العلل الشيء الكثير، ومن حق صبحي منصور عدم القبول بفحوى هذه المدونة ، لكن هل هذه العلل في كتب الصحاح تبرر عملية الطعن والشتيمة التي مارسها الكاتب تجاه الإمام( البخاري) ؟ خاصة وهو يزعم أنه من أهل القرآن. لنتجاوز فكرة هذا الكتاب الضعيف في متنه ، ونذهب إلى أطروحة التيار القرآني لنرى مدى إمكانية تبني مثل هذا الطرح في واقعنا الإسلامي اليوم : أولاً : من حيث المبدأ، أتفق مع ضرورة استدعاء القران إلى الواقع المسلم اليوم بوصفه نصا مركزيا فاعلا، خاصة وأنه ينطوي على مفاهيم كبرى ، ومركزية تم تغييبها أو تناسيها مثل : أ- مفهوم الحرية التي هي مناط التكليف أصلا ً، و التي غُيبت في التاريخ بسبب سيادة ثقافة الجبر والاستبداد منذُ العصر الأموي . ب مفهوم العدل ، الذي غيبته السياسة عمداً بمشاركة فعلية من طرف فقهاء بعض الفرق الإسلامية ، والذي أنتج مفهوما خطيراً هو مفهوم أهل الشوكة والغلبة الذي صبغ تاريخنا بالعنف والدم . ج مفهوم العقل ، الذي ذمه فقهاء السلفية لأنه في ظنهم ربيب الهوى والحيدة عن الحق ، متجاوزين منطوق الخطاب القرآني الذي أعلى من شأن العقل. وغيرها من المفاهيم المركزية في خطاب القرآن ، التي لا يتسع لها مقام هذه الورقة . ثانياً وهو المهم : إن تبني القرآن وحده مصدراً للتشريع كما يروج له القرانيون عموما ، وأحمد صبحي منصور خصوصا يطرح جملة من الاشكاليات ، التي يجب التفكير فيها بروية شديدة ، قبل إصدار حكم نهائي قد يجر الأمة إلى مزيد من التمزق ، والفرقة ، و تتمحور تلك الإشكالات في التالي : ١- القرآنيون وخاصة أحمد منصور ينطلقون من فكرة أن التأويل السني ، وخاصة الأشعري هو التأويل المرجح عند المسلمين بشتى طوائفهم ، و يجب الاحتكام إليه وهذا ليس صحيحاً. ٢- القرآنيون يقومون بإزاحة متعمدة وصريحة لكافة صور التأويل وأشكاله الممكنة التي أنتجتها الفرق الإسلامية الأخرى ، كالتأويل الشيعي ، والتأويل الباطني عند الصوفية ، والتأويل المعاصر الذي قام به ثلة من المفكرين المعاصرين ، كالدكتور محمد أركون ود. محمد عابد الجابري ، و البروفسور محمد أبو القاسم الحاج حمد و د. محمد شحرور و د.أحمد عمارة ، و غيرهم. ٣- القرآنيون يزيحون مدونة الحديث بدون سند علمي مقبول، بل أنهم يبالغون ويشتطون في ممارسة الهدم القسري وغير المبرر لكل ما أنتجه العقل المسلم عبر سيرورة تاريخية طويلة، فلا أهمية عندهم للفقه وأصوله، لأنه في نظرهم يعتمد في استدلالاته على مدونة الحديث النبوي المرفوضة من قبلهم ، ولا لعلوم مصطلح الحديث، ولا حتى لعلوم القرآن؛ المتضمنة علم التفسير، والقراءات، وعلم الناسخ والمنسوخ التي يبطلها القرآنيون جملة وتفصيلا، فأصبحوا وفق هذا القول مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً. ٤- يَفترض القرآنيون أن القرآن مدونة تشريعية كاملة، ويمكن الإستغناء بها عن غيرها، وهذا افتراض غير حقيقي، فالقرآن ( فيه المحكم كما أن فيه المتشابه وكما يضم البين فهوى يضم المبهم وإن حوى الحقيقة فقد حوى المجاز أيضا) حسب تعبير المفكر التونسي رياض الميلادي. فكيف لنا بعد هذا القول أن نطمئن إلى قول القرآنين بأن القرآن مدونة تشريعية يمكن الاكتفاء بها دون غيرها ؟ ٥- القرآنيون يقومون باستنطاق النص بما يريدون لا بما يقوله النص فعلا ، وهذه كارثة الكوارث إذ يطرحون مفهوماً جديداً للصلاة ينقض المفهوم المتعارف عليه للصلاة في كتب الأصول . ٦- إن القرآنيين يغفلون بوعي أو بدون وعي أن القرآن الكريم عبارة عن خطاب لغوي منفتح على التعدد الدلالي، و أن هذا الانفتاح على التأويل المتعدد يجعلنا غير متيقنين عما إذا كانت طريقتنا في انتاج المعنى، يمكن أن تكون مطابقة بشكل صحيح و محدد لمراد الشارع، وفي هذا السياق يمكن استحضار قول الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( القرآن حمال أوجه ). وخاتمة القول أرى أن حالة الانسداد التاريخي التي مرت وتمر بها الأمة هو ما جعل الفرق الإسلامية بكل تبايناتها تحاول أن تقدم الحل تلو الحل ، في محاولة مضنية للخروج من حالة الانسداد المزمن الذي تعاني منها الأمة ، فالوهابيون وأسلافهم حاولوا تحت ضغط الواقع القفز إلى مافوق التاريخي بفتح باب الإجتهاد من الكتاب والسنة مباشرة وليتهم ما فعلوا! فلم يتأت لهم إنجاز تلك القفزة باهضة التكاليف، بل تورطوا في اجترار إسلام التاريخ، وخسروا في ذات الوقت إسلام الوحي الذي أرادو الظفر به، فحالهم كحال المنبت الذي لا ظهر دابة أبقى، ولا طريقا قطع. والقرآنيون يريدون طمس التراث كاملا، والابقاء على نص القرآن وحده في محاولة غير موفقة لاستعادة زمن النبوة والوحي الذي لن يعود ، لأن ذلك ضد نواميس التاريخ ، والدهر، ثم جاء الحداثيون واعتسفوا التراث بتكريس فكرة القطيعة النهائية معه وقاموا بعملية استدعاء قسري وغير مبرر للتجربة الغربية إلى الحاضنة الإسلامية، فزادو الواقع كلوما على كلومه القديمة. إذاً ماالحل ؟ لا أمتلك القدرة على تقديم جواب نهائي لأن هذا من مهمات طبقة ( الانتلجنسيا )، بما فيهم المفكرين، وعلماء الدين و رجال التشريع ولكن سأقول ربما / و أؤكد على( ربما)، أن الحل يكمن في القبول بفكرة التأويل المتعدد الذي لا يشترط توافقاً جماعياً حول معنى واحد، وإنما يسمح بوجود حوار منفتح ، يشتغل فيه التأويل بحرية دون قيود، ودون مصادرة، للآخر خاصةً وأن خطاب القرآن كما ذكرت آنفا منفتح على التعدد الدلالي المتجدد، و المتعدد و إلا ما قيمة مقولة ( أن الإسلام صالح لكل مكان وزمان )! في نهاية هذه الورقة أرجو التاكيد على قضية التعددية، تلك السمة العظيمة الكفيلة بأن تجعلنا بشرا كالآخرين من أمم الأرض، نتعايش، من غير أن يصادر بعضنا بعضا، ويلعن بعضنا بعضا أحيانا، ويكفره أحيانا أخرى ( وفق التعبير الحنبلي القديم )، فنكون مشمولين بالقول القرآني البليغ ( كل حزبٍ بما لديهم فرحون )، وبعد هذا كله نتشدق بأننا خير أمة أخرجت للناس، وأن نبينا أرسل رحمة للعالمين. لقد حان الوقت كي نختلف دون أن نتقاتل على احتكار المعنى، وإن لم نفعل فنحن ماضون قدما أفرادا وأمة إلى أفق مسدود. الرأي طلق المرزوقي كتاب أنحاء
مشاركة :