لم يكن فوكوياما الفيلسوف الأميركي ذو الأصول اليابانية، حينما قال بنهاية التاريخ في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" المنشور عام 1992، بأكثر من باحث ينظر إلى معطيات ومقدمات، هي في نظره دالة على نتائج ومخرجات يحددها هو بدوره، ويحدد غيره من نفس المعطيات والمقدمات نتائج ومخرجات مختلفة، والزمان بعد ذلك هو الحكم على الجميع؛ حيث يُظهر لاحقاً صدق هذا وتوهّم ذاك، أو صدق ذاك وتوهّم هذا. ونهاية التاريخ عند فوكوياما تعني أن الديمقراطية كنظام سياسي والرأسمالية كنظام اقتصادي، يشكلان معاً نهاية ما وصل إليه العقل البشري في التنظير للحركة السياسية والاقتصادية، بل ويشكلان نهاية ما سيصل إليه، وذلك يعني من وجهة نظر فوكوياما أن ذلك هو غاية الكمال الذي يقدر على إبداعه العقل البشري من أجل أن يسيّر حركته السياسية والاقتصادية، وأنه سيعجز بعد ذلك عجزاً تاماً عن إبداع غيره والإتيان ببديل. وهذا الطرح يشكل من ناحية طرحاً علمياً مقبولاً في شقه الأول الذي يتحدث عن كون الديمقراطية والرأسمالية يشكلان -حتى الآن- نهاية ما وصل إليه العقل البشري، فحينما ننظر نظرة مقارنة بين كل النظريات السياسية والاقتصادية التي طرحها البشر حتى الآن، المعتمد والمفعّل فيها وغير المعتمد وغير المفعّل إن وُجِد، سنجد حقاً أن الديمقراطية هي أفضل هذه النظريات السياسية، وأن الرأسمالية هي أفضل هذه النظريات الاقتصادية. فالديمقراطية تعني حكم الأغلبية مع وجود الأقلية والسماع لرأيهم، وتعني أيضاً اختيار الشعوب لحاكميها ومراقبتهم ومحاسبتهم بل وعزلهم، وتعني كذلك التداول على السلطة. والرأسمالية تعني السوق الحرة، وترك الحالة الاقتصادية للعرض والطلب، وعدم تدخل الدولة إلا في أضيق الحدود وأندرها. عند إجراء المقارنة سنجد أن الديمقراطية والرأسمالية هما بالفعل نهاية ما وصل إليه العقل البشري إلى الآن في التنظير للسياسة والاقتصاد، لكنهما ليسا نهاية ما سيصل إليه أبداً، فهذا الشق الثاني من الطرح بعيد عن العلمية والمنطقية بعداً كبيراً. فهو ادعاء بكمال نظرية بشرية، وهذا ما ليس مقبولاً، فمعروف عن البشر النقص وعن نتاجهم العلمي والفكري كذلك، وليس أدل على ذلك من التغير الذي يطرأ يوماً بعد يوم على نظرياتهم العلمية والفكرية والفلسفية. البشر مكتوب عليهم النقص، وكذلك على نتاجهم وأفعالهم، وبحثهم عن الكمال والسعي إليه هو سر حياتهم وبقائهم. وهو ادعاء من جهة أخرى بعجز العقل عن التغيير في هذه النظرية والتعديل والتحسين فيها حتى إن كانت ناقصة غير كاملة، وهذا غير مقبول أيضاً، فحركة العقل ناحية البلوغ للأفضل والأحسن لا تتوقف. وبالحديث خصوصاً عن الديمقراطية، سيتبين أنها أقرب النظريات البشرية إلى الفكرة السياسية الإسلامية وأكثرها شبهاً بها، غير أنها تختلف عنها في نواحٍ عدة أخرى، وأبرز هذه النواحي هي: 1- فكرة السلطة المطلقة للشعب، حتى لو عارضت توجهات الشعب وآراؤه ما جاء في كتاب الله وفي سُنة نبيه. 2- فكرة التحزّب والتصارع على السلطة والعداء والتشويه من أجلها. 3- فكرة طلب الرئاسة وتزكية النفس. 4- فكرة الاختيار والقرار لعموم الناس بدهمائهم وغوغائهم وجاهليهم. لقد تلقف العالم كله الديمقراطية على أنها المخلّص من الديكتاتوريات الحاكمة، وتلقّف العالم العربي والإسلامي من ورائه لها، لكننا في عالمنا العربي والإسلامي تلقفنا الديمقراطية في إطار النظريات والفلسفات المطروحة للنقاش والحوار فقط، ولم تتعدَّ الديمقراطية ذلك عندنا، فلم تصبح إلى الآن واقعاً معاشاً، وما زلنا نعيش تحت وطأة الأنظمة الديكتاتورية والوراثية والعسكرية. ورغم ما في الديمقراطية من عوار من ناحية مرجعيتنا الإسلامية كما أسلفنا، فإننا ارتضيناها نظرية حاكمة وسعينا إلى تطبيقها، فلما حيل بيننا وبينها، ثارت ثائرتنا، وخرجنا منادين بها وبالحرية، ولما أن نجحنا في ربيعنا العربي في إسقاط رؤوس أنظمتنا الديكتاتورية المعمّرة، تآمر الغرب والشرق والقريب والبعيد علينا، وأعادونا إلى نقطة الصفر؛ لتبدأ دورة جديدة في حياتنا من القهر والجبر، ولنبدأ من جديد لنحلم بذلك اليوم ونتطلع إليه، يوم أن نمتلك قرارنا وسيادتنا، فنجيء بالحاكم ونذهب به، وهو بين مجيئه وذهابه راجع إلينا، محاسَبٌ بنا، حاسِبٌ لنا. الديمقراطية عندنا -نحن المسلمين- مرحلة انتقالية، ننتقل إليها من العصور الوسطى التي نعيش فيها في ظلال الأنظمة الجبرية العسكرية والوراثية الديكتاتورية. مرحلة انتقالية لمرحلة قادمة، بشّر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه الصحيح، حين قال في نهايته: "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة". هذه الخلافة التي سنبنيها على منهاج نبوتنا، ستكون لها نظرياتها وفلسفاتها الحُكمية، المقتبسة من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم. وستكون هذه النظريات والفلسفات غير نظريات اليوم وفلسفاته البشرية الناقصة، وإن تشابهت معها في نقاط فهي تختلف معها في نقاط ونقاط. إذاً لا تعني الديمقراطية عندنا -نحن المسلمين- أكثر من مرحلة انتقالية، ولا تعني عندنا أبدا نهايةً للتاريخ. وإذا كانت الديمقراطية قد شكلت لعشرات السنين في العقل الغربي نهايةً للتاريخ، فإن عليه الآن أن ينظر لما ذهب إليه. لقد جاء ترامب بهذه الديمقراطية المعيبة، ترامب المتعصب الهوجائي، الذي يخشى العالم كله على مستقبله منذ أن أعلن نجاحه. هذه الديمقراطية هي التي أتت بترامب ومن قبله بوش الابن الرئيس المتعصب الغبي، الذي قالت عنه أمه حين وصل للرئاسة: "لقد وصل أغبى أبنائي لسدة الرئاسة"، والديمقراطية هي التي أتت من قبل هذا وذاك بهتلر، النازي الدموي المجنون. إن فوز ترامب أظنه الصفعة التي ستفيق الغرب والشرق، وستجعلهم ينظرون بعين ناقدة لإله الديمقراطية الذي عبدوه عقوداً كثيرة. إن الديمقراطية مجرد نظرية بشرية لها وعليها، وقد يكون ما عليها أكثر مما لها. والعقل البشري عموماً لن يعجز أبداً عن الإتيان بالأفضل والأحدث من النظريات السياسية في قابل الأيام، شاهداً بذلك على قدرته المتجددة وفي الآن ذاته على نقصه اللازم. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :