ماذا عندما تكون أميركا ذاكرة الطفولة الأولى لعالمة عربيّة تعيش في زمن المألوف فيه هو أن تكون الولايات المتحدة هي «الذاكرة اللاحقة» للعلماء العرب الذين يتألّقون في المراكز العلمية في الغرب؟ يزيد من التشابك في علاقة ذاكرة العالِمَة الكويتية ليلى حبيب، أنها عادت إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراستها العليا، فكأن سفرها إلى أميركا عودة إلى ذاكرة الطفولة، مع تأسيس لـ «ذاكرة» العلم والتخصص في تلك البلاد. ثمة ثنية أخرى في تلك المساحة من الذاكرة المتداخلة. إذ عادت حبيب إلى أميركا كي تتخصّص، فكأنها عادت للسير على طريق سلكها أبوها الذي تخصّص أيضاً في الولايات المتحدة، بل أنه أنجز تخصّصة في مرحلة تكوّن ذاكرة الطفولة للإبنة، التي استندت لاحقاً إلى مسار الأب كي تصل إلى الأبعد والأبعد. هناك لعبة ذاكرة شخصيّة وعلوم متقدّمة في سيرة العالِمة الشابة، تصلح لوضعها في صورة مغايرة عن المتوقع في علاقة العرب مع المركز العلمي الذي تمثّله الولايات المتحدة. عائلة مثابرة على العلم على رغم أنها لا تفرط في سرد تفاصيل طفولتها «الأميركيّة»، إلا أنّ حبيب توضح أنها ولِدَت في «بلاد العم سام» أثناء إنجاز والدها تخصّصة في الهندسة الكيماويّة هناك. وتستكمل مشهديّة المهد العائلي- العلمي الذي احتضن العالِمَة حبيب، بأنّ والدتها تحمل إجازة جامعيّة في الفنون، إضافة إلى وجود أخ أكبر تخصّص في الطب، وأخت تحمل إجازة في الهندسة المعماريّة. وتضاف إلى مشهديّة الجو العلمي للعائلة الكويتية المثابرة، قوّة ارتباطها بالوطن. فما كاد الأب يحوز شهادة التخصّص في أميركا، حتى أقفل عائداً إلى بلاده، وسرعان ما أصبح باحثاً علميّاً فيها. وتمثّل الكويت المهد العلمي أيضاً للعالِمَة حبيب التي أتمت دراستها المدرسيّة والثانوية في وطنها. مع عائلة تشجع أبناءها ذكوراً وإناثاً (من دون تلك التفرقة بين الجنسين، وهي شائعة في الأسر العربيّة) على التقدّم في اكتساب العلم والتفوق فيه، نالت حبيب شهادتها الثانويّة بتفوق مع مرتبة الشرف. وضمن لها ذلك التفوّق الحصول على نيل منحة دراسيّة من وزارة التعليم العالي في الكويت، لإتمام الدراسة الجامعية في الهندسة الطبيّة الحيويّة في الولايات المتحدة الأميركيّة. ولم تكن العودة إلى أرض «ذاكرة الطفولة» مفروشة كلها بالورود، على رغم مواقف إيجابيّة من العائلة والحكومة الكويتيّة. يبقى أن العالم العربي فيه ثقافة ذكوريّة لا ترى في تغرّب «البنت» طالباً للعلم، مسألة بديهيّة على غرار ما تفعل تجاه الذكور. ولم يخل الأمر من ألسنٍ سألت سبب السماح للإبنة المتفوّقة بالسفر إلى الغرب كي تنهل من العلوم المتطوّرة فيه، كأنما ذلك ليس أمراً منطقيّاً ولا بديهيّاً. الأرجح أن الثقافة السائدة عربيّاً ما كانت لتطرح أسئلة مماثلة لو أن العائلة سمحت لأحد أبنائها الذكور بالسفر إلى أميركا طلباً للعلم، أما أن تسمح عائلة لأحد بناتها بذلك فهو أمر آخر. مهارة كويتيّة في صيد اللآلئ من البيّن أنّ الألسن ذات الثقافة الذكورية لم تثن الإبنة عن مسارها العلمي، كما لم تنلْ من تأييد العائلة لها. وأكثر من ذلك، تجاوزت حبيب حدود المنحة التعليميّة التي قدّمتها الوزارة لها. وفي السنة الأخيرة من دراستها للحصول على البكالوريوس في الهندسة الحيويّة الطبيّة Medical Bioengineering من جامعة «أيوا»، انفتحت أمام حبيب فرصة العمل في أحد مختبرات البحوث المتقدّمة في ذلك التخصّص. وإذ لاحظ الأستاذ المسؤول عن المختبر تألّقها علميّاً، عمد إلى تشجيعها على التعمّق في ذلك المجال العلمي الذي يعتبر من المجالات العلميّة الحساسّة والحاسمة في الأزمنة الحاضرة. وتتعلّق الهندسة الحيويّة بالجينات وتراكيبها وطرق عملها وسُبُل التدخّل فيها. ويركز الحقل الطبي من ذلك الاختصاص على التراكيب الجينيّة لدى البشر، وعلاقتها بالصحة والأمراض. وينعقد رهان علمي ضخم على أن التقدّم في ذلك العلم من شأنه إحداث نقلة نوعيّة في الطب، بل في علاقة العلم بالكائنات الحيّة وظاهرة الحياة على الأرض. وفي ذلك الأفق، وجدت حبيب نفسها أمام مساحة رحبة لم تكن تتوقعها عند بداية دراستها الجامعيّة. وبعزم ثابت، طلبت من جامعة الكويت منحة دراسيّة لمتابعة الدراسات العليا في «جامعة كاليفورنيا- سان دييغو»، وصولاً إلى الدكتوراه. وما إن غاصت في أعماق ذلك البحر، حتى شرعت في استخراج لآلئه، ربما على طريقة صيد اللؤلؤ الراسخة في عمق ذاكرة الشعب الكويتي وتقاليده الحيّة. ويستحضر اللؤلؤ ذاكرة الفيلم الكويتي «بس يا بحر» (إخراج: خالد الصديق، بطولة الرائعين حياة الفهد وسعد الفرج- 1972). وكان لحبيب أن تستخرج لآلئ علوم الجينات على طريقة صيّادي اللؤلؤ، لكنها سارت نحو أفق رحب مغاير للخاتمة التراجيديّة لذلك الفيلم العريق. وتكشّف أمام نظريها أن بحوث الجينات لها أثرها العميق على حياة المرضى، بمعنى كشف عمق الأمراض وكذلك الأسس الجينيّة للطريقة التي يتعامل فيها الجسم مع أحوال المرض والصحة. ولم يعد لديها أدنى تردّد في المضي صوب الدكتوراه، تمهيداً للدخول إلى العالم الرحب لبحوث ما بعد الدكتوراه في الجينات وهندستها. وتذكيراً، ذهبت جائزة «نوبل» في الطب للعام 2016، لبحوث تتعلّق بآليات عمل الجينات داخل الخليّة عند البشر، ما يوضح أيضاً الأهمية الحاسمة التي يوليها الطب لذلك النوع من الدراسات. محاربة الخرف في سياق دراساتها، انخرطت حبيب في تجارب تدرس العلاقة بين إنزيمات أساسيّة في الخليّة العصبيّة، تتمثّل مهمّتها في الحدّ من تأثير البروتينات المضرّة التي تضرب الأعصاب وتتلفها. ويمثّل مرض «آلزهايمر» Alzheimer الذي بات من المخاوف الأساسيّة في الأزمنة الراهنة، نموذجاً عن التأثير المتولّد من تراكم البروتينات المضرّة في الخلايا العصبيّة للدماغ. وفي ذلك المرض، يؤدّي تراكم نوع من البروتينات يسمّى «آمايلويد» إلى تلف خلايا الدماغ، وتاليّاً اضطراب الوظائف المتّصلة بها، خصوصاً الذاكرة التي هي أساس مجموعة كبيرة من القدرات المعرفيّة والسلوكيّة والإدراكيّة عند البشر. وبفضل مثابرتها، تمكّنت حبيب من اكتشاف نوعين من المواد الكيماويّة بإمكانهما المساهمة في الحدّ من تراكم البروتينات المضرّة في أعصاب الدماغ، ما يعتبر مساهمة علميّة بارزة في البحوث المتعلّقة بـ «آلزهايمر» الذي ينظر إليه بوصفه من أكثر أنواع الخرف انتشاراً عالميّاً. ... وبحوث عن العضلات وضمورها في بحوث ما بعد الدكتوراه، انضمت حبيب إلى مجموعة مختصّة بدراسة الخلايا الجذعية (تسمى أيضاً «خلايا المنشأ» Stem Cells) في «معهد ستانفورد - برنهام للبحوث الطبية» في جامعة «كاليفورنيا - سان دييغو». وصبّت اهتمامها على مرض «الضمور الوراثي للعضلات». وعملت على استخراج خلايا جذعية من جسد المريض، وهو أمر حديث في العلم كما يشكل بديلاً عن الحصول عليها من الأجنة البشرية. وفي خطوة تالية، يجرى تحفيز تلـــك الخـلايا عبر إعـــادة برمجة معطياتها الوراثية والتدخل في جيناتها، بـــهدف جعلها أكثر قــدرة على التصدي لذلك المرض. وفي خطوة تعبر عن قوة ارتباطها بالكويت، وعلى غرار ما فعله أبوها أيضاً، عادت الباحثة حبيب إلى وطنها، حيث تعمل في بحوث عن «الضمور الوراثي للعضلات»، مع الإشارة إلى أنه مرض يعتبر مستعصياً. ومن موقعها كأستاذة مساعدة في الهندسة الطبية الحيوية في جامعة الكويت، تعاونت مع بحّاثة في «معهد ماساتشوستس للتقنية»، بهدف إنتاج خلايا جذعية محفزة، تعمل على شفاء ذلك المرض. وفي 2016، نالت الباحثة حبيب جائزة «لوريال - يونيسكو» للنساء الباحثات، دعماً لبحوثها الرامية إلى دراسة مسار تطور الخلايا من المرحلة الجنينية الأولى، إلى خلايا عضلية. ومع انكشاف ذلك المسار، يصبح من الممكن التدخل في آليات تشكل العضلات، وعلاج مرض ضمورها المتصل بالجينات. لا يفوت الباحثة حبيب أن تلاحظ وجود تفاوت بين العدد الكبير من النساء اللواتي ينهين دراساتهن الجامعية في العلوم عند مستوى الدكتوراه، وبين انخفاض نسبة من يعملن في العلوم، وكذلك من يواصلن مسارهن علمياً إلى مرحلة الدكتوراه. وتلمح أيضاً إلى انخفاض نسبة النساء العربيات في صفوف صناع القرار في دول المنطقة، مشيرة إلى أن نقص المساندة من المجتمع هو العامل الأساسي في تلك الصورة.
مشاركة :