جاءت النهاية الأسبوع الماضي بعد خمس سنوات قضاها مع المنتخب الأميركي الأول لكرة القدم، وفي بيان مقتضب صادر عن اتحاد كرة القدم الأميركي مذيلا بعبارات المجاملة، أصبح الألماني يورغن كلينزمان، المدرب الذي لقي حفاوة كبيرة عند قدومه للولايات المتحدة عام 2011، بلا عمل. لقد كانت للخسارتين اللتين تعرض لهما الفريق الأميركي أمام المكسيك وكوستاريكا في تصفيات كأس العالم المقررة عام 2018 في روسيا معنى كبير بالنسبة لرئيس الاتحاد الأميركي سونيل غولاتي الذي لم يستطع تحملهما. قرار إقالة المدرب الألماني سيسعد الكثيرين من مشجعي الفريق الأميركي الذي سبق وهللوا لمجيئه في البداية، فلطالما سحر كلينزمان لب وخيال الكثيرين منذ خمس سنوات عندما وعد برفع مستوى اللاعبين والمسابقة برمتها، لكن بحلول عام 2016 بدأ وكأن الرجل قد حل عليه التعب ورفض الانتقادات التي توجه إليه بسبب أخطاءه، وبدأ الكثير من لاعبيه في الانصراف عنه. لقد كان غولاتي، رئيس الاتحاد الأميركي يراهن بشكل كبير على كلينزمان لأحداث طفرة في كرة القدم ببلاده وكانت الأمور تبدو مثالية قبل خمس سنوات، فالألماني مدرب صاحب خبرة كبيرة والولايات المتحدة دولة على استعداد لمنحه الوقت اللازم للعمل لإحداث الطفرة، التي تسعى إليها منذ فترة طويلة، لكنها لم تحقق كل ما تصبو إليه في هذا الشأن. وبعد أن وصل إلى دور الستة عشر من بطولة كأس العالم 2014 بالبرازيل، أصبح المنتخب الأميركي يواجه صعوبة بالغة في التصفيات الحالية المؤهلة للمونديال القادم، بعد أن حقق نتائج سلبية في المرحلة النهائية بالسقوط على ملعبه أمام المكسيك 1 - 2 ثم تجرع هزيمة قاسية برباعية نظيفة أمام كوستاريكا لتزداد الضغوط على كلينزمان الذي بات يحمل على كاهله قائمة طويلة من النتائج السيئة في الفترة الأخيرة. وتكشف الإحصائيات أن حقبة كلينزمان مع المنتخب الأميركي شهدت خوض الفريق 98 مباراة تحت قيادته، فاز في 55 وتعادل في 27 وخسر في 16مباراة. ولكن لا تنحصر مشكلة المنتخب الأميركي في النتائج السلبية، بل تمتد أيضا إلى طريقة أداء الفريق، الذي أجهدته التغييرات الكثيرة لكلينزمان، الفائز بلقب كأس العالم مع المنتخب الألماني عام 1990، مما جعل صحيفة «شيكاغو تريبيون» تقول: «فريق بلا هوية»، منتقدة قرار المدرب الألماني بالاستعانة ببعض اللاعبين في مراكز لم يعتادوا على اللعب بها. فيما رأت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» أن تجربة كلينزمان فقدت مصداقيتها، كما أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى عدم جدوى الأساليب التكتيكية للمدرب الألماني. وبات المشهد الحالي مختلفا تماما عن الوضع في صيف 2011 عندما تولى كلينزمان المسؤولية خلفا للمدرب السابق بوب برادلي. فقد تولى كلينزمان، الذي يقيم بولاية كاليفورنيا منذ 18 عاما، مهام منصبه الجديد تملؤه مشاعر الحماس، ومنحه الاتحاد الأميركي حرية كبيرة في إدارة الأمور كيفما يشاء، كما جاءت النتائج الأولى لتبرهن على إمكانية نجاح التجربة. وبالإضافة إلى وصوله إلى دور الستة عشر من مونديال 2014. توج كلينزمان مع الفريق الأميركي بلقب بطولة الكأس الذهبية قبل عام واحد من المونديال البرازيلي. ولكن في الآونة الأخيرة بات كل شيء مصدرا للقلق والضيق لبطل كأس العالم السابق مع المنتخب الألماني، فقد أثارت أساليبه الفنية، التي لا يستوعبها لاعبو المنتخب الأميركي، انتقادات أبرز رموز الكرة الأميركية مثل مايكل برادلي، الذي طالب بـ«خريطة طريق» أكثر وضوحا بالنسبة لمنتخب بلاده. لقد لعبت السياسة الملتهبة في الولايات المتحدة أيضا دورا، حتى وإن لم يعترف الكثيرون من المشجعين بذلك. فبعدما تسببت الانتخابات الأميركية الأخيرة في انكفاء المجتمع للداخل، بات الكثير من مشجعي المنتخب الأميركي يشعرون بضيق من تركيز كلينزمان على اللاعبين الأميركيين ذوي الأصول الألمانية، وباتت تلك الحالة ملحوظة بمختلف مراحل الشباب، وعليه فقد اشتكى الآباء بفرق الناشئين المختلفة وعبروا عن شعورهم بالمرارة من أن أبناءهم لن ينالوا فرصا عادلة بمنتخبات بلادهم طالما ظل كلينزمان وطاقمه في موقعة. عبرت الجماهير عن حالة السخط تلك عندما انتقدت أبي ومباك، إحدى نجمات فريق كرة القدم النسائية، اللاعبين المهاجرين بالفريق الأميركي، مما أثار تعليقات غاضبة في المقابل، لكنها في المجمل كانت تعبر عن حالة سخط عامة سادت الشعب الأميركي. ونتيجة لذلك، كان كل خطأ يرتكبه كلينزمان يجري تضخيمه، حيث نشر أحد المدونين قائمة طويلة من الأخطاء خلص في نهايتها إلى أن كلينزمان هو الأسوأ على الإطلاق في تاريخ الولايات المتحدة. (رغم أن سجل كلينزمان يقوله إنه ثاني أفضل مدرب بعد أرينا، وهذا لأن جون كوالسكي الذي درب المنتخب في مباراتين فقط عام 1991 لا يمكن أن يدخل في الإحصاء). وقد طالب بعض الصحافيين بإنهاء التعاقد مع المدرب الألماني، وهو المطلب الذي وصفه كلينزمان بـ«غير المحترم». من الصعب عدم توجيه اللوم لكلينزمان، فقد تجاهل عددا كبيرا من اللاعبين الجيدين بسبب خططه واختياراته المحيرة. وكان أيضا سعيدا جدا بانتقاد بعضهم على الملا أمام الجماهير، وكان تعامله مع اللاعب المهم لاندون دنوفان خلال التصفيات المؤهلة لكأس العالم سيئا بدرجة كبيرة. لم يقتصر التقصير على المدرب وحده، إذ شملت الإخفاقات اثنين من مدربي فرق الشباب اللذان اختارهما بنفسه. فكان مستوى التطوير الذي قدمه لفرق الولايات المتحدة المختلفة متوسطا في أحسن الأحوال، وأهدر هذان المدربان فرصتين للتأهل للأولمبياد. كذلك بات هرم التطوير الكروي في البلاد في فوضى عارمة، وتسبب ولعه الدائم بالخروج عن النص في أن يتمنى طاقم عمله مدربا أكثر قوة وسيطرة على الفريق. لكن الحقيقة تقول إن فريق كلينزمان تخلص من أشخاص سيئين بالفعل، فعلى الرغم من كل تلك المحاذير والسلبيات التي أثيرت، فكلينزمان سيترك الكرة الأميركية في حال أفضل كثيرا مما كانت عليه عند قدومه. فبرنامج كلينزمان الذي طبقه خلال السنوات الماضية حقق مكاسب كثيرة، فقد هزم إيطاليا وألمانيا وهولندا، وحل رابعا في بطولة كوبا أميركا الأخيرة، ولم يكن عارا أن يخسر أمام الأرجنتين ويخرج من مجموعة الموت أمام البرازيل، كما فاز فريقه أيضا بكأس الكونكاكاف الذهبية عام 2013. كان كلينزمان أيضا سببا في الحيوية الكبيرة التي شاهدها الجمهور في الكرة الأميركية، فللمرة الأولى بات للأميركيين «نجم سوبر» في تلك اللعبة، وكان هذا في حد ذاته نجاح كبير ومزايا لا تحصى، وباتت اللعبة مصدر إثارة كبيرة للجماهير، مما رفع من سقف الآمال، وهو ما يحسب للمدرب الألماني. فللمرة الأولى نجد لاعبي كرة القدم في الولايات المتحدة تحت ضغط حقيقي شأن باقي الرياضات، وتلك حقيقة يجب نكرانها. اكتشف كلينزمان الكثير من المواهب الجديدة مثل المهاجم الشاب كرستيان بوليسيك، الذي يعتبر آخر الجواهر المكتشفة (يلعب حاليا بصفوف دورتموند الألماني وكانت كرواتيا تريد ضمه لمنتخبها)، وتشمل قائمة اللاعبين الموهوبين الذين ظهروا في ظل كلينزمان لاعبين مثل فابيان جونسون، ودي أندري يدلين، وجوليان غرين، وبوبي وود، وجوردان موريس وأرون جونسون. ورغم حالة الشك والريبة التي صاحبت خيارات كلينزمان، فإن نظرة إلى العدد الضخم من الأسماء التي شملها برنامجه تظهر أنه مدربا بعين فاحصة استطاع الاستفادة من الشباب بجميع الدوريات والمستويات. يأخذنا هذا التحليل والسرد لشيء واحد فشل كلينزمان في السيطرة عليه: فرغم حقيقة أنه شاهد وجرب نحو 70 لاعبا على مدار العام الماضي، فإن مخزونه من اللاعبين الموهوبين أقل مما كان في السابق. فحراسة المرمي الأميركية التي كانت يوما مصدر قوة للمنتخب قد جف نبعها بعدما تعرض تيم هاوارد للإصابة وبات براد غوزان عديم الفائدة، ولا يبدو أن هناك حراسا مبشرين في الطريق، باستثناء الحارس الممتاز كريستيان بوليزيك. كذلك تسبب مرض في القلب في ابتعاد نجم خط الوسط وقائد الفريق كلاينت ديمبسي، رغم أنه كان خطأ كبيرا ألا ينضم للفريق قبل مرضه. أيضا هناك عدد من اللاعبين مثل جيرمين جونز، وكيلي بيكرمان، وغوزان، وجميعهم بدت عليهم أعراض التقدم في العمر. ويراهن رئيس الاتحاد الأميركي لكرة القدم حاليا على العودة إلى القيادات القديمة، بالتعاقد مع بروس أرينا لقيادة منتخب البلاد، وهو من تولى هذه المسؤولية خلال الفترة ما بين عامي 1999 و2006، ويقود في الوقت الحالي نادي لوس أنجليس غالاكسي. وسينبغي على أرينا معالجة الكثير من المشاكل وأبرزها ضعف الدوري الأميركي، مع إصلاح منظومة الهرم الكروي والتطوير في البلاد بجميع قطاعاته الذي يتسبب في أهدار الكثير من المواهب. سيتعين عليه أيضا الدفاع عن تحول المنتخب الأميركي إلى نادي مجددا، وهي النغمة التي استطاع كلينزمان أن ينهيها بحكمه. لقد تحققت أمنية جمهور الكرة بإقالة كلينزمان الأسبوع الماضي، وكحال الكثيرين في هذه البلاد بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، قد يأتي يوم يندمون فيه على تحقيق أمنيتهم.
مشاركة :