تنساب التصريحات التركية وتنجرف نحو التصعيد حيال تطورات مشهد العلاقات المأزومة مع دول الاتحاد الأوروبي، والتي تحاول أنقرة توظيفها لإتاحة بدائل أخرى لا تقلل من الأهمية الجيو استراتيجية التي اكتسبتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومع تصاعد التوتر مع القوى الغربية، لاسيما بعد أحداث 15 يوليو/ تموز، أعاد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 20 نوفمبر/تشرين الثاني الفائت، الطرح الذي تبنته أنقرة من قبل، حينما نالت في عام 2013 وضعية شريك محاور في منظمة شنغهاي للتعاون (SCO). مثّل هذا الموقف في حينه محاولة لتوسيع خيارات الحركة التركية الخارجية، وإن بدا مؤخراً خياراً بديلاً عن مسعى الانضمام للمنظومة الأوروبية، حيث صرح الرئيس التركي بأن بلاده باتت تستهدف نيل العضوية الكاملة في المنظمة الآسيوية، وأن أنقرة لن تسعى بأي ثمن للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ربما لا تعبر التأكيدات التركية المتوالية حول أهمية منظمة شنغهاي للتعاون عن محض تطور أنشأته حالة التدهور التي غدت تصيب علاقات تركيا مع الشركاء الغربيين، أو توجه طارئ يسعى إلى تحقيقه باعتباره، وحسب، الخيار المتاح، وإنما تمثل، في الوقت نفسه، قراءة مستجدة لطبيعة المشهد الأوروبي في أعقاب تزايد مؤشرات صعود قوى اليمين المتطرف، وخروج بريطانيا من الاتحاد، وتصاعد النوازع الانفصالية لدى العديد من الأقاليم الأوروبية، فضلاً عن توصية البرلمان الأوروبي غير الملزمة بتجميد مفاوضات العضوية مع أنقرة، وتعثر تنفيذ تطبيق اتفاق الإعادة بشأن اللاجئين، وعدم الاستجابة للمطالب التركية بإغلاق الأبواب أمام موسم الهجرة الأوروبية لأتباع حركة فتح الله غولن. كما يعكس ذلك طبيعة المسيرة المعلقة أو روابط بين البينين التي لا تقطع بمصير عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، رغم مرور نحو عقد ونيف على بداية المفاوضات بين الجانبين. وقد توقفت المفاوضات تماماً مؤخراً من جراء الرفض الغربي لفرض حالة الطوارئ، وسياسات الرئيس التركي حيال قوى المعارضة الحزبية، لاسيما بعد اعتقال عدد من نواب البرلمان من حزب الشعوب الديمقراطية الكردي، واستمرار الانتهاكات الحكومية لحرية الصحافة، فضلاً عن اتباع سياسات إقصائية عبر الإقالة والاعتقال والتنكيل بعشرات الآلاف من المواطنين، بدعوى ارتباطهم بحركة الخدمة، وانتهاج عمليات التطهير السياسي المؤسسي داخل أجهزة الدولة المختلفة تحت ذريعة محاسبة القوى الانقلابية. يضاف ذلك إلى عدم التزام تركيا بتطبيق بنود اتفاق اللاجئين، وإعادة طرح قانون الإعدام، وإعلان الرئيس التركي استعداده للتوقيع عليه حال تمريره من البرلمان، هذا فضلا عن عدم تعديل قانون الإرهاب اللازم لتطبيق الجانب الأوروبي التزاماته بشأن اتفاق اللاجئين. ترتب على ذلك، أن تصاعدت المعارضات الغربية، وتوالت الانتقادات للحكومة التركية، بما أدى مؤخرا إلى تحذير ألمانيا مواطنيها من السفر إلى أنقرة. كما أقر البرلمان النمساوي منع تصدير المستلزمات العسكرية لتركيا، وتصاعدت الدعوات الأوروبية لإلغاء كامل مفاوضات العضوية، بما أفضى إلى نشوء ما يمكن اعتباره حرباً باردة بين الجانبين، دفعت الرئيس التركي مؤخراً إلى التهديد بإغراق الشواطئ الأوروبية باللاجئين، لاسيما إذا ما امتنعت الدول الأوروبية عن منح تأشيرة شينغن لمواطني تركيا، بمقتضى اتفاق مارس/آذار 2016. يأتي هذا مقابل التطور اللافت الذي باتت تشهده علاقات تركيا متعددة المسارات مع العديد من القوى الآسيوية، وفي مقدمتها كل من الصين وروسيا، بعد أن غدتا تتشاركان الرؤية حيال الموقف الغربي من تركيا، انطلاقاً مما يعرف في الأدبيات السياسية اقتراب الفرصة، لتعلن كلتا الدولتين استعدادهما لدعم خطوات تركيا للانضمام لمنظمة شنغهاي، وذلك بعد سابقة اختيار أنقرة لرئاسة نادي الطاقة بالمنظمة، وذلك في سابقة غير معهودة بالنسبة لدولة لا تتمتع بالعضوية الكاملة في المنظمة التي تمثل نحو 100 مليار دولار من التبادل التجاري، وتحظى باقتصادات تبلغ نحو 800 تريليون دولار، وهي منظمة مزدوجة الأهداف. فمن ناحية، يحظى التعاون العسكري بأولوية، وفي الوقت نفسه يشكل التكتل الاقتصادي أساس التفاعل المشترك. وتتحرك تركيا حيال دول منظمة شنغهاي بشكل مكثف، حيث شهدت علاقات تركيا بالدول القائدة داخل المنظمة تطورات متلاحقة خلال الفترة الأخيرة، فقد تصاعد التبادل التجاري مع الصين لنحو 28 مليار دولار، بدلاً من ملياري دولار عام 2002، كما شهدت العلاقات انفراجة سياسية نسبية بعد تراجع دور تركيا في دعم قضية الأيغور، والموافقة على تسليم القيادي الأيغوري يابشان، اللاجئ في تركيا منذ عام 2001. هذا إضافة إلى تراجع الحديث سياسيا وإعلاميا عما يطلق عليه البعض داخل أنقرة أتراك الصين، وأحقية الحكم الذاتي في إقليم سينجان. وعلى جانب آخر، فقد شهدت العلاقات التركية مع روسيا انفراجة مؤخراً بعد التراجع التركي بتقديم اعتذار عن حادثة إسقاط الطائرة SU-24. وكذلك في أعقاب الموقف الروسي بدعم الحكومة التركية إثر محاولة الانقلاب العسكري، وحدوث توافق نسبي بشأن إدارة التباين فيما يخص الملف السوري، وعودة العمل في خط السيل التركي ومشروعات الطاقة النووية بتركيا. وعلى الرغم من ذلك، فإن تركيا التي تلح على طلب حرية التنقل لمواطنيها داخل الاتحاد الأوروبي، وتعلن، في الوقت نفسه، عن مسعى الانضمام لشنغهاي، إنما توظف ذلك في إطار التكتيكات التي تستهدف ممارسة الضغوط على الاتحاد الأوروبي فيما يخص القضايا العالقة بين الجانبين، كما أنها تدرك استحالة أن تجمع بين عضوية حلف الأطلسي ومنظمة شنغهاي، لاسيما أن أغلب قيادات الجيش التركي تعتمد نظم التدريب والتسلح الغربية، وتدرك تركيا أيضاً ما تمثله عضوية الأخيرة من تحديات بالنسبة لأطروحات التكامل مع دول وسط آسيا، والعلاقات مع بعض دول الخليج التي تتبنى مقاربات مناقضة للسياسات الروسية حيال ملفات وقضايا الصراع الإقليمي، علاوة على أن الاقتصاد التركي مرتبط بأكثر من نصف تجارته الخارجية مع الاتحاد الأوروبي، و80 في المئة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة تأتي لتركيا، عبر دول أوروبا المختلفة. لم تطلب تركيا حتى الآن نيل عضوية منظمة شنغهاي بصفة مراقب، باعتبارها الخطوة السابقة على طلب الحصول على العضوية الكاملة، وفق ميثاق المنظمة. وقد صرح رئيس الأركان التركي، خلوصي أكار، أن أي تقدم من هذا النوع سيكون وسيلة لتعميق التعاون بين أنقرة وحلف الناتو، بما يثبت أن تركيا لا تلوح بخيار شنغهاي في سياق منفصل عن ممارسة الضغوط على القوى الغربية، وأن الهدف الحقيقي يتمثل في التلويح بتعدد الخيارات والبدائل لا تفضيل أي منها، وإنما المستهدف تحقيق مكاسب في مواجهة كل الأطراف عبر صيغ وسيطة لن تضمن عضوية تركيا في الأوروبي، ولم تجزم بعد بإمكانية تخطي عقبات تحصيل عضوية شنغهاي. *محمد عبدالقادر خليل رئيس تحرير مجلة شؤون تركية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
مشاركة :