تُختتم اليوم في مدينة فلورنسا الإيطالية الدورة السابعة والخمسون من «مهرجان الشعوب» للفيلم الوثائقي والذي عرض خلال أيامه الثمانية ما يربو على سبعين وثائقياً من أكثر من أربعين دولة، وخصّص البرنامج تحية خاصة للمخرجة اللبنانية دانييل عربيد وآخر للمخرج البرازيلي سيرغيو أوكسمان (ساو باولو 1970)، وجاءت التحيّتان لعربيد وأوكسمان كتتويج إضافي لفوزهما في دورتين سابقتين بجوائز المهرجان. وتزامن انطلاق الدورة الحالية من المهرجان مع «اليوم العالمي ضد العنف على المرأة» وشهدت ليلة الافتتاح عرض فيلم «الآخر الذي فيّ» للمخرج الإيطالي كلاوديو كازاتسا والذي تناول فيه يوميات مجموعة من السجناء المحكومين لجرائم عنف واغتصاب ضد النساء وضد القاصرات، وعن اشتغال فريق من الخبراء النفسيين وأطباء الأمراض العصبية معهم. وسعى الفيلم إلى إماطة اللثام الكثيف الذي يضربه هذا النوع من المجرمين حول حياتهم خالقين بذلك، عمداً أو دونما عمد، جانباً خفياً، متستّراً وحالك الظُلمة حول شخصياتهم، وذلك في ازدواجية حقيقية تتراوح بين حالة «الحمل الوديع» لحظة السجن، والتحوّل إلى «ذئب شرس» في لحظة الحرية وانشراح القضبان. وسعى الفيلم إلى سبر أغوار ذلك الجانب الخفي والمظلم وإلى استقصاء امكانات عودة هؤلاء إلى الطريق السوي، أو العكس، أي الإيغال في الجُرم. وإذا استثنينا موضوع الفيلم وتزامنه مع المناسبة، فقد عجز المخرج من شد انتباه المتفرّج بسبب الطول المبالغ في الفيلم وحشوه بمشاهد لم تُضف اليه شيئاً يُذكر، سوى جعله يظهر باعتباره فيلماً طويلاً. ناهيك عن الضعف الخطير الذي يظهر على فريق العلاج من النفسانيين الذين يُجرون الحوارات مع المسكونين والذين تركوا رسن الحواد بين يدي المحكومين وبدا هؤلاء أكثر قوة وإقناعاً. الحروب تحتل الفضاء وكما يحدث منذ ما يربو على عقدين ونصف عقد، وبالذات ما بعد احتلال الكويت وحرب الخليج الأولى والحروب المتلاحقة في المنطقة، فإن «الحدث» الحربي وصور القتال والمواجهات العسكرية اقتنصت مساحة واسعة من فضاء الوثائقي وأفقدت هذا النوع من السينمائي الكثير من فرص الاستقصاء والبحث العميق والتأمل الصبور في الواقع، والقراءة المتأنية لمجريات الأحداث والوقائع. وقد أفضى كل ذلك إلى ردم الفارق الضروري (والحيوي للوثائقي) ما بين الخبر الإعلامي المصوّر والعمل التسجيلي ذي القدرة الوثائقية. وساهم الاستسهال في استخدام التكنولوجيات الحديثة في التسريع في الانجاز من دون التأني الضروري، الذي قد يستغرق للوثائقي الحقيقي في بعض الأحيان عملاً متواصلاً، ربما لسنوات. بينما يُظهر الكثير من الوثائقيات المُنجزة في السنوات الأخيرة الوضع وكأنه سباق للمسافات القصيرة ما بين التقرير التلفزيوني والريبورتاج الصغير من جهة، والوثائقي من جهة أخرى. وكانت نتيجة ذلك تدّني مستويات الكثير من الأعمال المقدّمة، سواء على صعيد البحث والاستقصاء او على صعيد الشكل. إلاّ أنّ قوة بعض المواضيع أو الشخصيات التي تناولها عدد من الوثائقيات التي شاهدناها في فلورنسا، أفضت إلى نتائج مهمة، إنْ على صعيد الشكل أو على صعيد المضمون. ففي الإطار الأول، أي إطار المضمون جاء متميّزاً الوثائقي «ما بعد الربيع» الذي أنجزته المخرجتان ستيف تشينغ وإيلّين نارتينيز عن مخيّم «الزعتري» للاجئين السوريين في الأردن، والذي تُحيل فكرته الذهن إلى تكهّنٍ خطير في تكرار مأساة مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في بلاد الشتات، وكيف تحوّلت تلك الخيام التي لم تكن لتدوم إلاّ شهوراً قليلة، أو بضعة أعوام في أسوأ الاحتمالات، إلى مدن قائمة شهدت ميلاد أجيال ونهاية أجيال من الفلسطينيين. ما يعرضه هذا الوثائقي خطير ومثير للنقاش، إذْ لا تبدو الحال ما بين خيام ومكعّبات المخيم واقعاً عابراً أو آيلاً إلى نهاية وشيكة، بل كل ما في ذلك المكان يوحي بأن بقاء ساكنيه سيطول رُغماً عن رغبتهم في العودة السريعة الى منازلهم وديارهم. ولم يقتصر الوضع على التسيير الموقت للحياة اليومية لمجموعة من البشر المشرّدين من ديارهم ومنازلم بلغ عددهم 80 ألف لاجئ، وليس فقط على توفير اولويات الحياة من دواء وطعام ورحلات دراسة للأطفال، بل بدأت المنظمات الدولية ومفوّضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتّحدة بتسجيل ولادات جديدة في ذلك المخيم، ولن تحمل شهادات ميلاد أولئك الأطفال اسم مدينة أو قرية سورية، بل اسم مكان قد لا يكون موجوداً على وجه البسيطة بعد بضعة أعوام، حين يُحلّ الملف السوري، كما يُرتجى. وإذاً، فنحن أمام جيل جديد يولد في الـ «لا مكان»، كما لو انهم ولدوا في واقع افتراضي، وهل في إمكاننا ان نتخيّل الأعباء النفسية والعصبية التي تقع على ذهنية وشخصية ذلك الانسان في مراحل الشباب والنمو. وينبغي ألاّ ننسى الكم الهائل من العنصرية التي تعرّض اليها أبناء مخيّمات اللجوء من الفلسطينيين خلال سنوات الشتات. بوي ورولينغ ستونز وإذا ما كانت حكايات أيام السنين الست من حياة الناس وآصرة بعض ناشطي المجتمع المدني والموظفين الدوليين مع أولئك اللاجئين، قد شدّت من عضد الوثائقي الأميركي عن مخيّم الزعتري، فإن الحيوات المملوءة بالإبداع والمفاجآت والتناقضات لنجوم الموسيقى العالمية مثل ديفيد بوي وفرانك زابّا والرولينغ ستونز، أفضت إلى وثائقيات جميلة، كان أبرزها ما أنجزه كريستوف كونتي وغايتان تشاتايغنر، عن حياة مغني البوب ديفيد بوي وحياته ومسيرته الفتية المثيرة للجدل والاهتمام والفضول ايضاً. وحمل الفيلم عنوان «ديفيد بوي، الرجل ذو المئة وجه» وقدّم على مدى 70 دقيقة بطاقة تعريفية مُكثّفة عن حياة هذا الفنان المتحوّل ومتعدد الطاقات، بمزيج من الوثائق المصوّرة عن حياته والشخصيات التي أدّاها خلال سني عمله، إضافة إلى الشهادات المقدّمة عنه من قبل خبراء الموسيقى ومؤرخيها وأصدقاء الفنان ومن عرفوه عن كثب. وقد خلقت المخرجتان مستوَيين في العمل، الأول، والأساسي من بينهما هو ما عثرتا عليه في الأرشيف الثري والواسع لنشاط وحفلات بوي، ولم يكن لهذا القسم إلاّ أن يكون بذات الصخب الذي عاش فيه بوي وأسهم في تشكيله من خلال موسيقاه وشخصياته المتعدّدة. أما المستوى الثاني فقد كان عبارة عن الشهادات، التي أدلى بها غالب المتحدّثين ما بعد وفاة بوي في العاشر من كانون الأول (يناير) الماضي. ولم يكن لهذا الجزء إلاّ أن يكون بسكون بحيرة في مقتبل الربيع. وتميّز هذان المستويان عن بعضهما سواء في لون الصورة أو حركة لكاميرا أو في مقدار كثافة الصوت وإيقاع الكلام أو الخطاب. عاصفة من جهة وركون هادئ من الجهة الأخرى، وكل ذلك في مزاوجة جميلة لم تُشعر المشاهد بأي تغريب يُذكر.
مشاركة :