بهبّة عشائرية حاشدة، «حُلَّت» الخصومة التي تحوّلت اقتتالاً ومطاردات في ساحات الجامعة الأردنية، أعرق الجامعات في المملكة الهاشمية، وتخلل ذلك تحطيم زجاج وإطلاق رصاص حي بين «المتحاربين». حصلت هذه الوقائع «الغريبة» وهي ليست بغريبة، في الأيام الأخيرة، وهزّت مشاعر الأردنيين الذين توهموا أنّ موجة ما يسمى «العنف الجامعيّ» قد انحسرت، وراهن المتفائلون على اختفائها نهائياً. وكان الاحتراب قد تفجّر بين طلبة ينتمون إلى عشائر أردنية مختلفة، ثم ما لبث أن استدعى حشوداً ودعماً لوجستياً من الخارج عجز عن منع تدفقه رجال الأمن، ما استدعى الاستعانة بقوات الشرطة والدرك التي اقتحمت حرم الجامعة، وسيطرت على الموقف في ظل إنكار عجيب من إدارة الجامعة بأنّ ذلك كله حصل في شوارع الجامعة، ورصدته الكاميرات، ووثقته الفيديوات! ولو أنّ هذا الحادث محض خلاف عابر بين طلبة أو كتل طالبية، لما توقف المراقب عنده، فذلك يجري في أمكنة كثيرة. لكنّ هذا الذي يصفونه بـ»العنف الجامعي» ليس في الحقيقة إلا صورة مكبّرة للازدراء العالي والمتضخّم للقوانين المسنونة في الدولة، التي تتردّد في أدبيّات قادتها بين حين وآخر تأكيداتٌ ودعوات للالتحام بروح العصر، ونقل المجتمع إلى آفاق الحداثة. وتكثر العبارة السيّالة على ألسنة الجميع: «دولة المؤسسات والقانون»! بيْد أن ما جرى أخيراً في الجامعة الأردنية، وما جرى من قبل في جامعات أخرى، حتى أنّ جامعة أو اثنتين خلتا من الاقتتالات الطالبية، يبعث بإشارات إلى أنّ طاقة التجرّؤ على القوانين آخذةٌ في التمدّد السرطانيّ. ويندرج في هذا الإطار أكثر الحوادث والجرائم، ومن بينها جرائم القتل بداعي الدفاع عن الشرف، فالقاتل، استطراداً، يرتكب جريمته محمولاً على افتراضين، لا يخلوان من «الصحة»، أولهما التهاون القانوني بذريعة ارتكابه فعلته «تحت سوْرة الغضب» ما يمنحه حكماً مخفّفاً، والثاني النظرة الاجتماعية إلى القاتل باعتباره «بطلاً» غسل شرف العائلة، ونقّاه من الدنس! ولأنّ المشرّع، في غالبية الأحيان، يتواطأ مع هذه «الأعراف»، فقد راح يسوّغ ويشرعن ما يُعرف بـ»القوانين العشائرية» التي تمّ، في ضوئها، حلّ الإشكال بين العشائر التي تنازعت فاتخذت الجامعة ميداناً لتصفية الحسابات وإسالة الدماء. ولم يَسلَم أردني قط من التعرّض لموقف مباشر أو غير مباشر اشتمل على عبارة «رأسمالك فنجان قهوة»، في إشارة الى أنّ أي جُرم مهما علا أو انحطّ شأنه يُعالج بعطوة عشائرية تنتهي بفنجان قهوة، دلالة على الصلح الذي هو سيّد الأحكام، وليذهب القانون المدني إلى الجحيم! ويستجيب صاحب القرار برضا أو بإكراه لهذه المنظومة التي لا يستوي فيها الرهان على أي حداثة أو عصرنة، فتراه، وهذا يتجلى لدى تشكيل الحكومات، مرغماً على التوازنات العشائرية التي تقضي بأنّ تكون العشائر أو المناطق والمحافظات الأساسية ممثّلة في الحكومة، من دون أي انتباه أو اكتراث بضرورة أن يكون شاغل الموقع أو الحقيبة الوزارية مؤهلاً وذا كفاية، وقدرة على الإبداع والإضافة والابتكار. وحدث أن أُسندت حقيبة الزراعة الى أحد الوزارء، فقط من أجل ملء الكوتا العشائرية، علماً أنّ ذلك الوزير اعترف لكاتب هذه السطور بأنه لا يفقه في الزراعة شيئاً، ولا يمتلك أدنى معرفة عن كيفية غرس شتلة نعناع! ويعكس مفهوم المحاصصة التي تفتك بالعقل السياسي الأردني انقسامات عامودية وأفقية تلجم الطموحات الرغائبية إلى بناء نموذج متطور للدولة التي لم تحسم بعد مبدأ المواطنة، وجعلت الكلام عن القانون والمؤسسة إنشائياً إلى حد الغثيان، وجوّفت الجامعات ومراكز البحث العلمي، وطردت الكفاءات، غير عابئة بمخرجات هذا التجريف «المنهجي» لقيم الحداثة الحقيقية، وتوطين الفكر الماضوي الذي لا يهدّد الحاضر وحسب، بل يُخرج أصحابه من الانتساب إلى المستقبل! * كاتب وأكاديمي أردني
مشاركة :