الغِيرة، ذلك الخليط من الأفكار والمشاعر المتمثلة في الشك، والحزن، والخوف، وعدم الاستقرار، والهم، والقلق تجاه فقدان المرء علاقة أو شيئاً ذا قيمة كبيرة له، وتحمل في طياتها إحساساً دفيناً بالغضب، وعدم الأهلية، وقلة الحيلة. قد تكون الغيرة حميدةً كالغيرة الطبيعية التي نشعر بها جميعاً في مواضع ما في حياتنا. وقد تكون عكس ذلك مَرَضيّة وخبيثة، تدفع بأصحابها لحافة الهاوية، إن لم يتم التحكم فيها جيداً. ثم إن للغيرة أشكالاً عديدة؛ منها: الغيرة الرومانسية تعد أكثر أنواع الطبيعية شيوعاً، وتشمل وجود طرف ثالث يمثل تهديداً على علاقة حب والتزام مشترك بين شخصين. تتأثَّر بعدَّة عوامل تحدد مدى خطورة هذا التهديد: منها العامل الشخصي كأسلوب كل طرف في التعبير عن مشاعره، ومنها العامل العاطفي كدرجة التزام كل من الشريكين تجاه الآخر، واستثماره في نجاح واستمرار العلاقة، أيضاً تتأثر بعوامل اجتماعية، وثقافية، وتاريخية، وبيولوجية لدى كل من الرجال والنساء. الغِيرة بين الأصدقاء والأقارب تنتشر أكثر بين جماعات المراهقين، وهي غيرة طبيعية ينتاب الفردَ فيها شعور بالخوف تجاه خسارته شريكاً تجمعه به علاقة صداقة، أمام منافس دخيل يحاول انتزاع انتباهه واهتمامه. بينما هناك أمثلة عديدة للتنافس بين الأشقاء والأقارب، كغيرة الطفل الأول بعد ميلاد طفل جديد. الغيرة في العمل غيرة طبيعية بين شركاء العمل الواحد؛ نتيجة نجاح ملحوظ لأحد الأفراد، كحظوه باهتمام خاص من المدير، أو حصول أحدهم على ترقيات وتدرّج في المناصب بوتيرة متسارعة. جميع هذه الأمثلة أنواع للغيرة الطبيعية، على الوجه الآخر يوجد النوع المَرَضي الذي يتصف بالهوس، والوهم، والقلق المفرط. لكن، ما الدوافع النفسية خلف الشعور بأنواع الغيرة المختلفة؟ 1- شعور داخلي بعدم الأمان أمضى علماء علم النفس التطوري سنوات عديدة في دراسة موضوعأملاً في فهم أعمق لأسبابها ومعالجتها. الشعور بعدم الأمان والاستقرار في العلاقة، من أبرز الدوافع التي تحرك الغيرة، كشعور أحد الطرفين بأنه غير جيد بدرجة كافية للطرف الآخر تبقيه على علاقة مستمرة به، أو ما نسميه أحياناً (عقدة النقص) التي ترجع لتدني الثقة بالنفس واحترام الذات. 2-التفكير الاستحواذي بعض الأشخاص يميلون إلى المبالغة في التفكير، فيتخذون نمطاً استحواذياً يصل حد الهوس بمعرفة كل شيء، لا يتحمّلون تقبّل المجهول ويستمرون في خلق الهموم في عقولهم. مثلاً، إذا تأخر شريك أحدهم لوقت متأخر، تبدأ عقولهم في إنتاج سيناريوهات سلبية تفسر السبب كخيانة محتملة، هو من أهم العوارض التي تفسر الغيرة المَرَضية، ويعد ضمن أعراض اضطراب الوساوس القهرية. ذلك الاضطراب القلقي الذي يأخذ أشكالاً عديدة، تجعل من صاحبها حبيساً لأفكار وسلوكيات قد تعجزه عن عيش حياة طبيعية. 3- اضطرابات في الشخصية وجدت سابقة في المجلة البريطانية لعلم النفس، أن نسب انتشار الغيرة الوهمية في بعض الأمراض النفسية لدى حالات من المرضى النفسيين الذين أجري عليهم البحث، كانت أكثر ظهوراً في مرضى الذهان العضوي بنسبة 7%، يليها اضطراب جنون العظمة بـ6.7%، ثم الذهان الناتج عن إدمان الكحول بـ5.6%، والشيزوفرينيا أو الفصام بنسبة 2.5%. يعاني الكثير من الأشخاص درجات خفيفة إلى متوسطة من الارتياب، لا تعني بالضرورة أنهم يطابقون الصورة الكاملة لتشخيصهم بالإصابة بارتياب جنون العظمة أو غيره. قد يواجهون صعوبة كبيرة في الثقة بالآخرين، ويميلون إلى إلقاء اللوم على غيرهم عوضاً عن تقبل المحاسبة على أخطائهم، عادةً عندما يشعرون بالغيرة يلجأون بقوة لاعتقاد أن شركاءهم يقومون بخيانتهم مع شخصٍ آخر، مهما قدم لهم من أدلة تنفي ذلك. 4- نتيجة خلل وظيفي بالمخ تُرجح بعض الدراسات أن إدراك شعور الغيرة وفهم نوايا الآخرين، يحدثان في النصف الأيمن من المخ. بالإضافة إلى أن نسبة 45% من التقارير الطبية التي أبلغت عن ظهور أعراض للغيرة الوهمية على بعض المرضى، أوضحت حدوث ذلك عقب إصابتهم بسكتة دماغية في نصف الدماغ الأيمن. الاختلاف في الاستجابة بين الجنسين الغيرة شعور فطري يستشعره كل من الرجال والنساء، لا خلاف على ذلك، غير أن بعض الدراسات لاحظت فروقاً في طريقة استجابة كل من الجنسين تجاهه. أجرى باحثون في جامعة بنسلفانيا (الولايات المتحدة) دراسة على 500 طالب يدرسون ما بين الصف الخامس والتاسع؛ لفهم مدى قابلية المراهقين للشعور بالغيرة، وُجد خلالها أن أولئك الذين ينتابهم شعور بالوحدة، وانخفاض في تقدير الذات، هم الأكثر قابلية. لوحظ أيضاً أن الفتيات كنّ أكثر غيرةً من الفتيان على شركائهن سواء كنّ صديقاتهن أو أحباءهن. ويرجح الباحثون أن ذلك قد يرجع لكون الفتيات يتوقعن في علاقاتهن درجات أكبر من الوفاء، والحنان، والتعاطف، والالتزام. وتفترض دراسة أجراها قسم علم النفس بجامعة كاليفورنيا، أن أكثر ما يثير غضب وغيرة الرجال هو ظهور أدلة ما ترجح قيام شريكاتهم بخيانتهم جنسياً، في حين وجد أن النساء تزعجهن أكثر الخيانة العاطفية. أُرجعت الأسباب في ذلك إلى حاجة الرجل للتأكد من نسب الأبوة، وحاجة المرأة لاهتمام الرجل الكامل واستثماره في ذريتها منه. ولا تزال العديد من الدراسات تحاول الوصول للمزيد من الفهم حول الطريقة التي تدرك بها أدمغتنا المشاعر المختلفة، والدوافع النفسية التي تلعب أدواراً خفية خلف سلوكياتنا، وطرق استجاباتنا المختلفة.
مشاركة :