بمشاهد الماضي، ولوحات وصور مطرّزة بالأبيض والأسود، في الخمسينات والستينات، يحفل كتاب «ذكريات الإمارات»، الذي يروي فصولاً حية من الأيام الخوالي، وينقل ملامح ما قبل الاتحاد، على ألسنة شهود على تأسيس الدولة، عايشوا زمن الأحلام الأولى التي تحولت سريعاً إلى واقع تخطى الخيال. «البدايات مع رواد إماراتيين، يحملون كنوزاً من الذكريات، ومن بينهم أصحاب ثروات لا يتنكّرون للماضي، ولا يزيفون السيرة، بل يبوحون بأنهم لم يكن باستطاعتهم يوماً دفع روبيات المدرسة، وانطلقوا من دكاكين صغيرة بطموحات كبيرة». 416 صفحة يضمها كتاب «ذكريات الإمارات» الصادر عن المركز الوطني للوثائق والبحوث (الأرشيف الوطني) في 2012. «نجني اليوم ثمار عزيمتنا ومثابرتنا.. وما أقدمه لرد جميل بلادي، فراية العلم لا تفنى». جمعة الماجد الشيخ زايد والشيخ راشد كانا حاكمين مخلصين، يسكن في قلبيهما رخاء شعبهما». إدريك ورسنوب «شتان ما بين الإمارات المتصالحة وقت وصولي 1953 والإمارات العربية المتحدة الآن». جوليان ووكر البدايات مع رواد إماراتيين يحملون كنوزاً من الذكريات، ومن بينهم أصحاب ثروات لا يتنكّرون للماضي، ولا يزيّفون السيرة، بل يبوحون بأنهم لم يكن باستطاعتهم يوماً دفع 20 روبية للمدرسة، وانطلقوا من دكاكين صغيرة بطموحات كبيرة، كما تفصّل شهادة «طواش الخير» جمعة الماجد، والتي تأتي بعنوان: «تراث الإمارات: ثروة من الأفكار والموارد». يبدأ الماجد الحكاية من زمن الولادة في منطقة الشندغة بدبي: «تفاصيل بيوتها وأزقتها محفورة في ذاكراتي، وترادوني كلما تأملت الأحوال المعيشية في تلك الأيام، وما تبقى منها. كانت بيوت الشندغة الساحلية من الحجر والجص، ومن سعف النخيل، إلا أن الغالبية كانت من الحجر، وهناك أزقة كثيرة تربط الحي بأطرافه في مختلف الاتجاهات إلا أنها صممت باتساعات مختلفة، فالواسعة منها تفسح مجالاً للجمال المحملة بالحطب للوقود والحشائش من البر لإطعام الحيوانات للوصول إلى مواقع معينة، والضيقة تتيح للمشاة في الزقاق ظلاً يقيهم حر الشمس». ويستدعي الماجد صورة «مدرسته» الأولى، التي كانت مكوّنة من خمس خيام من سعف النخيل، والـ10 روبيات التي كان يدفعها كل طالب، وبعد قليل أغلقت «مدرسة القمبري»، وأسست أخرى، بالقرب من العبرة ببر دبي، وكان على كل طالب أن يدفع 20 روبية، ولم يستطع الصبي البسيط تحمّل ذلك المبلغ، لكن رغبته في التعلم دفعته إلى الذهاب لصاحب المدرسة الجديدة (حسن ميرزا)، وقال له: «أستطيع أن أدفع ما كنت أدفعه للقمبري: 10 روبيات، فقال ابن من أنت؟ فأجبته ابن ماجد بن قريبان. فقال: حسناً، ما دامت رغبتك في التعليم ملحّة، سأقبل منك 10 روبيات». فهل كان ذلك الموقف باعثاً لجعل الماجد يسهم بعد ذلك في تأسيس صروح علمية وثقافية (كلية الدراسات العربية، والمدارس الأهلية، ومركز للثقافة والتراث يحافظ على المخطوطات الإنسانية ويخدم باحثين من كل الأرجاء). ويقول: «هذا ما أقدمه لرد جميل بلادي، فراية العلم لا تفنى، وستحملها الأجيال كما فعلنا». كما يسرد قصته مع الدكان الأول والتجارة في الأقمشة بدعم من الخال (أحمد بن ماجد الغرير)، الذي منحه بضاعة بـ700 روبية: «كان دكاني أول دكان يفتح صباحاً وآخر دكان يغلق مساء»، ولا تغيب ملامح الحاضر الزاهي عن شهادة الماجد، إذ يرى أن النهضة أساسها هناك في الماضي البعيد، المثابرة: «نجني اليوم ثمار عزيمتنا ومثابرتنا». لوحة يرسم لوحة الذكريات «نخبة من المسؤولين وأصحاب الرأي من أبناء الإمارات والبريطانيين الذين شغلوا مناصب منذ نصف قرن»، كما جاء في مقدمة الكتاب الصادر عن الأرشيف الوطني في أكثر من 400 صفحة. ومن بين الرواد الإماراتيين في الكتاب إلى جانب الماجد، فرح بن بطي المحيربي (صاحب رحلة عمر مع البحر)، وخميس بن راشد بن زعل الرميثي (طواش من زمن اللؤلؤ وشاعر وصاحب تجارب، وجمعة بن حميد الذي عاصر مراحل تاريخية، ويعد مصدراً موسوعياً عن الإمارات. «شتان ما بين الإمارات المتصالحة وقت وصولي 1953 والإمارات العربية المتحدة الآن».. بهذه الكلمات يستهل البريطاني جوليان ووكر شهادته، مضيفاً: «ففي ذلك الحين (1953) لم تكن دبي والشارقة وأبوظبي معروفة دولياً. كان تعداد سكان دبي 35 ألف نسمة، وكان الحاجز الرملي عند مصب الخور يهدد بالقضاء على تجارتها. أما تعداد الشارقة فقد كان 7000 نسمة، وكان الخور قد امتلأ بالطمي. وفي أبوظبي كان تعداد السكان 3000 نسمة، وكان لها شاطئ مكشوف». ويضيف ووكر، الذي يبدو أن أرقامه بحاجة إلى مراجعة، أن الفقر كان متفشياً «إذ كانت تجارة اللؤلؤ قد انهارت بنهاية عشرينات القرن الـ20 ولولا إمدادات الغذاء من الهند لمات أهالي الساحل جوعاً أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها. وكانت ثمة 400 مركبة، لكن لم تكن هناك طرق، والرحلة من دبي إلى أبوظبي كانت تستغرق نحو سبع ساعات، هذا إذا لم يغرز المسافرون في السبخة الداخلية وهم على الدرب الممهد الوحيد عند المقطع.. كانت الكهرباء قليلة، وكانت الاتصالات تتم باللاسلكي أو البروة (رسالة ورقية)، وكان الماء العذب قليلاً، ولم يكن الطعام كثيراً، ولم تكن ثمة مدارس، وكل ما كان هو دور المطوعين لتحفيظ القرآن للصبية، وكان ثمة مستشفى وحيد به 12 سريراً، وهو مستشفى آل مكتوم في دبي على الساحل. وانتقلت دار المعتمد السياسي من الشارقة إلى موقع جديد منعزل عن المدينة خلف مقبرة حتى لا يتدخل البريطانيون في شؤونه، وارتفع عدد أفراد الجالية البريطانية في دبي إلى 12 فرداً. ويسرد ووكر (المعتمد السياسي) ذكرياته عن اللقاء الأول مع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في العين عام 1953، وكذلك يفصل التحديات التي واجهت الإمارات المتصالحة في تلك الفترة، إضافة إلى جانب من مفاوضات الاتحاد، بداية من الاتحاد التساعي، ويقول: «في دبي اتفقنا على أن يواصل الشيخان زايد وراشد مفاوضاتهما، بينما يقوم مستشاراهما، أحمد السويدي، ومهدي التاجر، بتناول التفاصيل، وعلى أن يقوم الشيخ خليفة بن زايد بدور ضابط الاتصال بيننا، واطلاعي على ما يدور». الأرض كانت قاحلة أما البريطاني إدريك ورسنوب، فيروي أنه بعد تعلمه اللغة العربية في لندن، تم تعيينه ضابطاً سياسياً في أبوظبي، وسافر بالطائرة إلى الشارقة. وعن رحلته إلى أبوظبي يروي: «بعد يومين أمضيتهما في الاطلاع على العمل والحياة في الإمارات المتصالحة، سافرت بسيارة لاندروفر إلى أبوظبي، وعلى الرغم من كل ما سمعته وقرأته لم يكن ثمة ما يعدني لتلك الرحلة ذات الـ80 ميلاً. لم يكن هناك طريق بالمعنى المعروف، بل مجرد طريق صحراوي موازٍ لخط الساحل. كانت الأرض قاحلة وموحشة، وكان مدخل مدينة أبوظبي كئيباً، ولدى اقترابنا منه أشار السائق إلى برج حصن المقطع القديم، الذي كان يحرس طريقاً ضيقاً بني في أوائل خمسينات القرن الـ20، وبات الطريق الوحيد الذي يصل جزيرة أبوظبي بالأرض الأساسية، وذلك قبل استبدال جسر به في 1968». وتتحول ذكريات الرجل إلى ما يشبه قصيدة شعر عند الحديث عن واحة ليوا، ومحيطها الشاسع من أمواج الرمال. وبالإشادة بالمغفور لهما الشيخ زايد والشيخ راشد تختتم شهادة ورسنوب: «كانا حاكمين مخلصين مستنيرين، يسكن في قلبيهما رخاء ورفاهية شعبهما. حاكمان قد حولا بلدهما إلى دولة حديثة، تنعم بتنمية اقتصادية تنم على معجزة، واستقرار سياسي وتقدم اجتماعي. وقد ثبت بالفعل أن ذلك إنجاز مذهل، وبالتأكيد سيظل إرثهما باقياً على مر الأجيال». شهادات المرأة.. وطرائفها كما تحضر شهادات المرأة في كتاب «ذكريات الإمارات»، فثمة بريطانيات يروين طرفاً من حكاياتهن في الإمارات، ومن بينهن باربرا بيرسون كلارك، التي قدمت إلى أبوظبي في سبتمبر 1967، وعملت معلمة في مدرسة على قطعة أرض أهداها الشيخ زايد، رحمه الله، وكبرت المدرسة الصغيرة حتى صارت الخبيرات رسمياً في عام 1968، وتضيف باربرا: «طوال إقامتي في أبوظبي أسعدني الحظ بمشاهدة الإنجازات الرائعة للمغفور له الشيخ زايد، الحاكم العظيم، الذي تمتع ببصيرة ثاقبة، وتمكن من تحويل حلمه الجميل إلى واقع ملموس، وإنني أشجع تلاميذي على أن يحلموا، وأن يعملوا بعزة وكرامة على تحقيق ما يرغبون فيه». أما مارغريت بولارد فتتذكر أيامها في دبي، وحكاية تأسيسها أول مكتبة عامة إنجليزية عام 1969: «ولم يكن بها سوى ثلاثة رفوف من الكتب التي أرسلتها جدة أحد الضباط العاملين في كتيبة الحرس الأسكتلندي المرابطة في الشارقة في عام 1969، بغرض تخفيف حدة الملل الذي يعانيه الضباط». وتصف مارغريت دبي بأنها «مليئة بالرومانسية والجاذبية»، وتذكر بعض الطرائف، ومن بينها أنها شاهدت مرة من نافذة مطبخها ثلاثة رجال، اثنان منهم يحملان صقوراً. وسألت الطاهي ماذا يريدون؟ فأجابها «لقد جاؤوا لكي يتعلموا كيفية إعداد البطاطا المشوية». كما تحكي أنها ركبت ما اعتقدت أنها أول سيارة في دبي، ليست من نوع لاندروفر: «كانت من طراز إم جي سبورت، وأعتقد أنها كانت أول سيارة في دبي متميزة عن مركبات الدفع بالعجلات الأربع، لكن تبينت أنني على خطأ عندما علمت بأن سيارة من طراز رولز رويس قام بإنزالها عمال من شركة غراي مكنري». ومما كتبه الدكتور عبدالله الريس في مقدمة الكتاب: «تأتي ذكريات الإمارات لتضيف مادة ندية بديعة بأقلام أصحابها، فتحمل عبق الماضي القريب، وترسم ملامح غابت عن عيون الجيل المعاصر الذي يصبو إلى معرفة الجذور، وعزائم الآباء في مواجهة ظروف الحرمان وشظف العيش، وإرادتهم في تحقيق الأمل الذي طال انتظاره. ذكريات الإمارات عود على بدء، لترسيخ القيم الأصيلة التي ورثناها كابراً عن كابر، فكانت منهج حياة، فترسم آفاق المستقبل المشرق في إطار الأصالة، وتجمع أطراف المجد الذي أرسى الأوائل قواعده الصلبة ليعلو البنيان شامخاً في حضارة معاصرة».
مشاركة :