خذل المحيط الأسري وترسانة القوانين أطفالاً جزائريين بعمر الزهور، في حمايتهم من الارتماء باكراً في أحضان المهن الشاقة، مباشرة بعد التسرّب من المدارس، مع تسجيل أكثر من 500 ألف تلميذ يسرّحون سنوياً. أطفال لا يدرسون، لا يلعبون وحتى لا يحلمون بمستقبل أفضل، اقتحموا عالم العمالة البخسة في سوق ما يُسمى بـ»مقطع خيرة» لبيع اللحوم، على طول حافة الطريق السريعة بين بلدتي بوفاريك والقليعة غرب العاصمة الجزائرية. والمفاجأة الكبيرة المثيرة للاستغراب التي يصطدم بها زوار أشهر الأسواق الفوضوية في البلاد، أن تجهيز الديك الرومي لعرضه على الزبائن، تختبئ من ورائه طفولة مستغلة، اختارت السوق للظفر بقوت يومها من أجل مساعدة عائلاتها المعوزة، حيث يمضي أطفال تتراوح أعمارهم ما بين 8 و15 سنة فترة تجريب، ليس في معاهد التكوين المهني بل على أيدي تجار، لامتهان ذبح الديك الرومي ونتف ريشه في مقابل بضعة دنانير، وفق تقدير الطفل وسام، ابن الحي الواقع في أعلى الجبل المحاذي للطريق السريع، إذ يقول: «نزاول عملنا في هذا المكان خلال العطلات المدرسية، وبعض من أصدقائي ينشط هنا يومياً بعد الخروج من المدرسة»، متابعاً بنبرة صوت طفولي: «لا دخل لنا في من يأتي بالسلعة ومن يشتريها، همنا الوحيد تحصيل المال، ويتراوح مدخولنا اليومي في أوقات الذروة بين 500 و700 دينار (4 -6 دولارات)، بمعدّل 25 ديناراً للديك الواحد، وهذا من أجل التحضير لمواسم الأعياد ودخول المدرسة، فلوازم العودة إلى المدرسة لا يقوى أهلنا على توفيرها لنا». كان وسيم وخمسة من زملائه الأطفال يقومون من خلف طاولات التجار بمهنة «الجزارة» والتفنن في تقنيات الذبح العشوائي. ويقول سعيد (13 سنة) أن مكوثه في مذبح مقطع خيرة أهّله لذبح كبش أو خروف بحكم الخبرة التي اكتسبها منذ كان في التاسعة من عمره ومن خلال احتكاكه المستمر والدائم في أوقات العطل، بتجار المواشي والدواجن وجزاري المنطقة. «إنهم يستغلون عقول الصغار لاستمالتهم» كما يعتبر أهالٍ، يخشون على مستقبل أبنائهم وصحتهم وسلامتهم، لا سيما السلامة النفسية والعقلية، من تبعات منظر الدماء والذبح المستمر أمام قدرة تحمّل ضعيفة بحكم صغر السن وعدم اكتمال نضجهم، ما يجعلهم عرضة لنوبات وصدمات محتملة. ومع ذلك، لا يجد هؤلاء الأهالي إلا غض الطرف عما يقوم به فلذات أكبادهم، بمبرر الحصول على حفنة دنانير تساعدهم على تخطّي عقبة العوز. مجانية التعليم وقوانين «هامشية» وتُعد سوق مقطع خيرة عينة صغيرة تعكس تفشّي ظاهرة عمالة الأطفال، على رغم أن مجانية التعليم وإلزاميته مضمونتان في الجزائر حتى سن الـ16. كما أن «ترسانة» القوانين المتراكمة الخاصة بحماية الطفولة من الاستغلال والاضطهاد أخفقت، بدليل أن الأرقام تشير إلى امتهان 1,9 مليون طفل أعمالاً موسمية في مجالات مختلفة، في مقابل 1,2 مليون طفل قبل سنوات قليلة. وتنكر وزارة التضامن والأسرة وقضايا المرأة، هذا الرقم، وتفيد بأن نسبة عمالة الأطفال في الجزائر منخفضة جداً، وأن حصيلة السنوات الأخيرة أثبتت أنها لا تتجاوز النصف في المئة، استناداً إلى نتائج التحقيقات التي أجرتها مفتشية العمل، وأنه لم تسجّل أي حالة تتعلق بوجود أشكال سيئة لهذه الظاهرة. لكن، وكما هو معلوم، فإن عمالة الأطفال والقُصّر غير منتشرة في المؤسسات الحكومية أو المصانع، وإنما وفق طرق عشوائية في الشوارع والمناطق النائية، ما يجعل التدابير والسياسات الوطنية المتخذة في مجال المكافحة لا تصمد، خصوصاً تلك المتعلقة بتحديد الحدّ الأدنى لسن التوظيف وتوفير التعليم الإلزامي والمجاني. ويشير عبدالرحمن عرعار، رئيس الشبكة الجزائرية للدفاع عن حقوق الأطفال، الى وجود هؤلاء في أمكنة لا تصلها لجان التفتيش التابعة لوزارة العمل. وبالتالي، تبقى أرقام الوزارة عاجزة عن إدراك حقيقة هذه الظاهرة، لافتاً إلى أن الفقر والتسرب المدرسي يقفان وراء توجّه آلاف الأطفال إلى سوق العمل، محذّراً من أن وجود الطفل في الشارع يعرّضه للاستغلال بأبشع الطرق، كأن يتحوّل إلى مشروع مجرم ثم مجرم، ومنهم من يستغلهم أرباب العمل في صورة بشعة. وتكشف دراسة أعدتها الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، وجود 200 ألف طفل جزائري مستغلين في سوق العمل، فيما يتجاوز العدد مع حلول فصل الصيف الـ450 ألفاً، حيث يكثر عدد الباعة من الأطفال في الشوارع، إذ تدفعهم الظروف الاجتماعية إلى المتاجرة في أبسط الأشياء، كبيع «المطلوع» (الخبز المصنوع في المنزل) أو الأكياس البلاستيكية أو المشروبات على الشواطئ، ويرعون الأغنام في القرى في مقابل أجر زهيد، وصولاً إلى التسوّل. كما أشارت دراسة استطلاعية وبحثية عن ظاهرة استغلال الأطفال في عملية التسوّل التي يعاقب عليها القانون، أجرتها العام الماضي فرقة حماية الطفولة والقُصّر ومكافحة جنوح الأحداث في المقاطعة الغربية لولاية الجزائر، إلى توقيف 50 حالة ثابتة لمتسوّلين يستغلون قُصراً يومياً ضمن شبكات منظمة. الحل يبدأ من المنزل يؤكد اختصاصيون في علم الاجتماع أن مواجهة الظاهرة لا بدّ أن تبدأ من الوسط الأسري المُطالب بحماية الأبناء. وكحـــلّ وقائي، اقترحت الشبكة الجزائرية للدفــــاع عن حقوق الأطفال على الحكومة تشكيل فـــرق متخصــــصة لردع عمالة القُصر، مهمتها مراقبـــة أي حالات استغلال للأطفال في مجال العمل. وعموماً، تبقى القوانين واللوائح حبراً على ورق، في ظل تجريم القانون الجزائري أي مخالفة للأحكام المتعلّقة بشروط توظيف القُصر، إذ تنص المادة 140 من قانون علاقات العمل: «يعاقب بغرامة مالية تتراوح بين ألف دينار جزائري ( نحو 12.25 دولار) إلى ألفي دينار (نحو 25 دولاراً) كل من يوظّف عاملاً قاصراً لم يبلغ السن المقررة، إلا في حالة عقد التوظيف المحرر طبقاً للتشريع والتنظيم المعمول بهمـــا». وفي حال تكرار المخالفة، يمكن إصدار عقوبة حبس تتراوح بين 15 يوماً إلى شهرين من دون المساس بالغرامة، التي يمكن أن تُرفع إلى ضعف تلك المنصوص عليها في الفقرة السابقة، بموجب القانون.
مشاركة :