يسجل التاريخ الحديث ريادة تركية في التخصّص في الانقلابات. فقد شهدت تركيا أول انقلاب عسكري فعلي في الشرق الأوسط عام 1909 عندما استولى قادة الاتحاد والترقّي على السلطة وخلعوا السلطان عبد الحميد الثاني. لم تكن الانقلابات حكراً على العسكر، فالمدنيون في تركيا تاريخهم حافل بها أيضاً، بولنت أجاويد انقلب على عصمت إينونو، ومسعود يلماز انقلب على طورغوت أوزال، وأردوغان انقلب على نجم الدين أربكان وعلى فتح الله غولن وعبدالله غل وأحمد داود أوغلو. على هذه الخلفية تناول محمد نور الدين في «انقلابات تركيا من عدنان مندريس إلى رجب طيب أردوغان» (رياض الريس للنشر- 2016)، النزعة العسكرية في تركيا وعلاقتها بالسلطة السياسية منذ أول انقلاب عسكري في العهد الجمهوري عام 1960 وما تلاه من انقلابات في الأعوام 1971 و1980 و1997. وقد كان انقلاب أيلول (سبتمبر) 1980 أعنف هذه الانقلابات، حيث اشتد الصراع بين اليسار واليمين، فشهدت شوارع أنقرة وإسطنبول مواجهات صدامية دامية، لا سيما بين الشباب والطلاب. واعتبرت التصفيات التي قام بها الجيش في هذا الانقلاب الأكبر منذ عهد الجمهورية، فقد اعتقل أكثر من نصف مليون شخص، وأعدم 517 شخصاً، وطرد 4 آلاف مدرس وأستاذ جامعي، ونزعت الجنسية من 14 ألف شخص، وكان المستهدف في هذا الانقلاب الحركات اليسارية والكردية والإسلام السياسي. تعتبر المادة 35 من قانون المهمات الداخلية للجيش التركي، المرجعية التي استند إليها الجنرالات لإضفاء الشرعية على انقلاباتهم، وهي تنص على أن «مهمة القوات المسلحة صون الوطن والجمهورية وفقاً للدستور». الأمر الذي كان بمثابة الوصاية العسكرية على السلطة السياسية طوال العقود الماضية، وصولاً إلى العام 2010 حيث أُخضعت القوات المسلحة للمرة الأولى للمساءلة أمام المحاكم المدنية. فقد رأى حزب العدالة والتنمية أنه من دون أضعاف العسكر لا يمكنه الانتقال إلى تطبيق مشروعه الرامي للإطاحة بعلمانية الدولة، تمهيداً لسيطرة الإسلام السياسي. وعلى رغم الصراع السافر بين أردوغان وغولن، فإن الاثنين يشتركان في العداء للعلمانية، بل إن غولن كان يؤمن بضرورة فرض الجهاد في تركيا، لأنها دولة علمانية، وقد كان مرشد أردوغان الروحي وشريكه، فضلاً عن كونه قوة مؤثرة في كل مؤسسات الدولة بما فيها الجيش والشرطة والقضاء. لكن التحالف مع غولن انتهى نهاية دموية في محاولة انقلاب تموز (يوليو) 2016 ليستأثر أردوغان بالسلطة بمفرده ويتخلص من أقرب رفاقه، وعلى رأسهم عبدالله غل. كانت الانتخابات النيابية في حزيران (يونيو) 2015 كما لو أنها استفتاء على النظام الرئاسي، وكان أردوغان أكبر الخاسرين فيها، ما كبّله دستورياً، وأفقد حزب العدالة والتنمية القدرة على الحكم منفرداً. لم ينتظر أردوغان إعادة الانتخابات النيابية التي سعى إليها، فأعلن أن النظام قد تغيّر، وأن انتخابه من الشعب فرض تغييراً في صلاحياته ويجب أقلمة المؤسسات مع الواقع الجديد، وما على المواطن التركي إلا أن يختار بين الفوضى والاستقرار، على قاعدة: «أنا أو الفوضى»، والاستقرار لا يتم إلا بعودة حزب العدالة والتنمية منفرداً إلى السلطة. ولقد مثل ذلك انقلاباً على الدستور، فلم يعد هناك، وفق كل المحللين في تركيا، شيء اسمه حزب العدالة والتنمية، بل هناك حزب رجب طيب أردوغان الذي أدخل البلاد مرحلة النظام الأوحد، حيث تمت تصفية كل من يرتاب، ولو بواحد في المئة في ولائهم. لكن إتمام عملية التحول الدستوري للنظام ليكون رئاسياً لم يكن بالسهولة التي كان يظنها أردوغان. فعلى رغم أن العلاقة بين أردوغان والعسكر جيدة، ولا يبدو في الأفق ما يشير إلى احتمال حدوث انقلاب عسكري، أثار ظهور المقاتلين الأكراد بالزي العسكري الأميركي، حنق أنقرة وشكّل رسالة شديدة اللهجة إلى أردوغان. ما طرح أسئلة عما اذا كان العسكر سيتحرك دفاعاً عما تبقى من علمانية، وعما إذا كان سيبقى متفرجاً ام سيتدخل؟ شكل أردوغان بهذا المنحى السياسي انقلاباً على الحريات، فتقدم بدعاوى ضد نواب وزعماء سياسيين ضارباً بذلك أرقاماً قياسية لم يعرفها أي رئيس أو زعيم في العالم، وتعرض صحافيون للاعتقال والسجن، ووضعت اليد على صحف، وأقفلت محطات تلفزيونية، وفصل أساتذة جامعيون من وظائفهم، وكان هدف أردوغان الأوحد من وراء ذلك كله «حكم الرجل الواحد». كما جرى في المقابل الالتفاف على علمانية الجمهورية وعودة الدعوة إلى عثمانية جديدة. فما كان بقية من ديموقراطية من عهد العسكر، أصبح اختزالاً للسلطة بشخص أردوغان، وما كان بقية علمانية، أضيفت إليها ممارسات تمييزية ضد المجموعات المذهبية والدينية. واستهدفت النزعة العلمانية لدى الأفراد والمجتمع، وحتى على صعيد المساواة بين الرجل والمرأة، وبدا أن كل شيء يمضي في اتجاه تغيير الطبيعة العلمانية للدولة، سواء بقيت مفردة «العلمانية» في الدستور أم حذفت. كل هذه الانقلابات على الدستور والعلمانية والحريات الاجتماعية والإيديولوجية شكلت تحولاً مريباً في التوجهات السياسية التركية، مهّد لمحاولة 15 تموز(يوليو) 2016 الانقلابية التي عبرت عن حالة الاعتراض داخل المؤسسة العسكرية، وداخل المجتمع التركي على النهج الذي كان يتبعه أردوغان بالاستثناء بالسلطة، وإقامة دولة أقل علمانية وأكثر تديناً. فالمحاولة أكبر وأوسع من أن تختصر بمؤيدي فتح الله غولن، بل يمكن اعتبارها انقلاباً على «الانقلاب المدني» الذي كان أردوغان ينفذه منذ سنوات. وقد واجه أردوغان هذه المحاولة بإعلانه حال الطوارئ، وشنّه حملة تطهير شاملة تهدف إلى إعادة تشكيل البناء الاجتماعي والسياسي لتركيا، وطي صفحة بعض إنجازات المرحلة العلمانية. فانطلقت من جديد حملة ترويع للعلويين والأكراد، وضد شرائح عسكرية في الجيش، وحتى ضد بعض شركاء أردوغان في التيار الإسلامي، ووصل عدد المعتقلين إلى 80 ألفاً، منهم ثمانية آلاف ضابط وجندي. كما ترجم هذا التوجه في اعتداءات أصولية على الجيش، وفي التراجع عن مسلمات علمانية في الدولة، وصولاً إلى إرهاب كتّاب يعدّون من رموز الإبداع الأدبي والشعري والفكري في تركيا. وطاول القمع كذلك آلاف العسكريين والموظفين والأكاديميين وعشرات السفراء ومئات المحافظين والقائمقامين، وأغلقت عشرات المؤسسات الصحافية والصحية والتربوية، حتى بات التساؤل حول مستقبل تركيا كدولة حديثة مبرراً ومشروعاً. بعد تحول أردوغان عبئاً على الديموقراطية والعلمانية والاستقرار الداخلي، وعلى اللحمة الوطنية، وعلى علاقات تركيا الخارجية، أما حان الوقت لحزب العدالة والتنمية ولزعيمه للانسحاب بهدوء من مسرح السياسة العاصف والدامي، والإفساخ أمام ظهور نخب جديدة حكيمة؟ إن عقاب التاريخ سيكون شديداً، إذا لم يأخذ رجالاته العبر والدروس، وبخاصة أولئك الذين يظنون أنهم خلقوا لمهمة مقدسة لا يستطيع غيرهم التصدي لها. * كاتب لبناني
مشاركة :