تحمل جماليات فن الصورة الفوتوغرافية في مصر، في أحد جوانبها، بصمة المصورين «الأرمن» والأجانب الذين عاشوا في القاهرة خلال بداية القرن الماضي. تُحسب لهؤلاء النهضة الهائلة في إبداعات فن التصوير الفوتوغرافي وقتها، إذ كانت عيون كاميراتهم مرآة ساحرة لتوثيق غالبية تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية خلال نهاية القرن التاسع عشر حتى منتصف ستينيات القرن الماضي. الحياة في مصر بتفاصيلها خلال حقبة تقترب من المئة عام وثّقها المصورون الأجانب بعدسات كاميراتهم، في مشاهدات نادرة كأنها وثيقة حية ترفض دخول خانة النسيان في ذاكرة التاريخ المصرية، ويحرص الباحث والمؤرخ السكندري مكرم سلامة، أشهر جامعي الوثائق والأرشيفات في العالم العربي، بدوره على استعادة تلك المشاهدات النادرة عبر مشاركته بتلك الصور في فعاليات المنتديات الثقافية والفنية المصرية، في مشاهدات «خانة الذكريات» النادرة التي لا تتضمنها إلا أفلام الأبيض والأسود. يمثّل الفنان السبعيني حالة فريدة لهواة جمع الوثائق النادرة، وكل ما يخص تاريخ مصر المعاصر، والحقبة الملكية وبداية ثورة يوليو 1952 حتى نهاية الستينيات. ما إن تدخل عالمه الساحر حتى تخطو خطواتك نحو عالم الأساطير، وتبحر عبر «آلة الزمن» في شوارع مصر القديمة، فتعانق البيوت القديمة، والمهن، والمحال التجارية، وحفلات الأجانب، والملوك، والباشوات والهوانم برونقهم وإطلالاتهم، وولاد البلد، ووجوه أصحاب المهن والحرف القديمة والمندثرة. كنز لا يقدر بثمن يملك مكرم «نيغاتيف» نحو خمسة آلاف صورة قديمة ونادرة لتفاصيل الحياة في مصر بعيون المصورين الأجانب، تمثّل كنزاً ثميناً لا يقدر بثمن للباحثين والدارسين والمستشرقين، تكشف كل صورة منها جانباً من حياة المصريين المدهشة والعجيبة والمتناقضة والساحرة، وتحمل جانباً من حكايات الزمن الجميل لأهل مصر، كذلك تكشف النهضة التي أحدثها المصورون الأجانب في فن التصوير الفوتوغرافي. يقول مكرم لـ «الجريدة» عن الصور التي يعكف على أرشفتها وتأريخها، إنه يجمعها منذ سنوات من صالات المزادات في القاهرة والإسكندرية، إضافة إلى الأسواق الشعبية الشهيرة في مصر، ومن ورثة المصورين، ومن بينها أرشيف صور الإنكليزي هانزل مان المصور الخاص لملك مصر الراحل فؤاد، إضافة إلى عدد آخر من أساطين فن الفوتوغرافيا في مصر، من المصورين الأرمن والإيطاليين، أبرزهم ديليكيان وعزيز ودوريل، والمصري رياض شحاتة المصور الخاص للملك فاروق، آخر ملوك مصر قبل ثورة يوليو 1952. احتفالات من بين الصور احتفالات المصريين بخروج محمل كسوة الكعبة المشرفة خلال حقبتي «الملكية» وبداية الستينيات من قلعة محمد علي، في احتفالات شعبية مهيبة في الشوارع والميادين قبل سفره إلى السويس ومنها إلى مكة المكرمة، شارك فيها أعيان مصر من الأمراء والباشاوات ومشايخ الأزهر الشريف وقوات الجيش. وكان الحدث تقليداً مصرياً سنوياً منذ عهد الظاهر بيبرس عام 1262، وكان يتولى أحد قادة الجيش شرف قيادة رحلة المحمل، ويطلق عليه «أمير الحج». أضف إلى ذلك عشرات الصور لاحتفالات المصريين بالعيد في الحدائق والمهن المرتبطة به، ويبدو في اللقطات عازف البيانولا المتجول، وصندوق الدنيا، والسينما المتنقلة للأطفال آنذاك، والحاوي، والمراجيح، وعربات الحنطور وبائعو الحلوى والسميط واللب والمحمصات والمأكولات، وعربات صغيرة لا تسمح إلا بركوب نحو ستة أفراد. كذلك تُظهر الصور الأفراح والمناسبات الاجتماعية في ريف وصعيد مصر من بينها لعبة التحطيب بالعصي، و«هودج» زفة انتقال العروس من بيت أبيها إلى بيت زوجها، وحولها الفرق الموسيقية، وفرقة «حسب الله» التي كانت مكوناً رئيساً من ذاكرة الفولكلور المصري ولا تزال، وخلدتها السينما المصرية في فيلم «شارع الحب» من بطولة المطرب الراحل عبد الحليم حافظ، وأدى الفنان الكوميدي عبد السلام النابلسي دور حسب الله السادس عشر، قائد الفرقة الموسيقية الشهيرة. في الصور أيضاً لقطات توثّق مظاهر احتفالات المصريين بعودة الزعيم مصطفى النحاس من إنكلترا عقب توقيع معاهدة 1936، واحتشادهم في ميناء الإسكندرية لاستقباله، فضلاً عن عشرات الصور للمصريين والأجانب على شواطئ الإسكندرية في لقطات تذكارية في بداية الأربعينيات، وصورة نادرة للمطربة الراحلة ليلى مراد بصحبة صديقاتها على شاطئ «سيدي بشر»، وعشرات الصور النادرة لـ «سقاء المياه» حاملاً قربته خلف ظهره في شوارع مصر القديمة. تلفتك كذلك صور عمال إضاءة فوانيس الإنارة في الشوارع في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته، وعسكري المرور في شوارع مصر والإسكندرية، في صورة توازي أناقة شرطة «أسكتلانديار» آنذاك، وعشرات الصور لشوارع مصر، من بينها شارع عدلي وكوبري قصر النيل، وواجهة محطة «قطار رمسيس» ومحطة مصر في الإسكندرية، بالإضافة إلى صور افتتاح الملك الأسبق فؤاد دير الرهبان الكاثوليك في محافظة الأقصر بصعيد مصر بداية ثلاثينيات القرن الماضي، عبر رحلة بالقطار الملكي يرافقه كبار رجال الدولة المصرية وقتها وثيقة حية بحسب مكرم، فإن الصور تمثّل وثيقة حية وصادقة لكل حقبة زمنية تعرضها، خصوصاً أنه لاحظ حرص المصورين الأجانب على وضع النيغاتيف في محفظة جلدية مصممة لحفظه، إضافة إلى توثيقهم مناسبة الصورة، بالتاريخ والمكان والأشخاص، بعناية شديدة على عكس ما يحدث اليوم من إهمال فكرة التوثيق. وكشف أنه عبر سنوات رحلته في عالم الوثائق وجمع الصور الفوتوغرافية، لاحظ أن مصر تعاني إهمال الصورة الفوتوغرافية كوثيقة تاريخية مقارنة بحرص المصورين الأجانب على ذلك، فالأرشيف الأميركي يحوي أكبر مجموعة صور فوتوغرافية لمصر خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كذلك يضمّ الأرشيف الأسترالي صوراً نادرة لمراحل بناء السد العالي منذ بدايات إنشائه حتى الانتهاء من مراحله، ما يكشف أهمية الصورة كوثيقة تاريخية حية في ذاكرة الأمم والشعوب، بحسب تعبيره.
مشاركة :