الجغرافيا حقائق.. التَّاريخ وقائع.. مهمّة الوقائع ترويض الحقائق لا تغييرها، فلم يحدث أن تمكَّنت الإنسانيَّة -رغم ما حققته من إنجازات علميَّة مذهلة- من تغيير الجغرافيا، لكنَّها استطاعت دومًا ترويضها عبر العلوم والفنون. الحرب في أحد تجلِّياتها، هي حاضنة الفنون والعلوم معًا، هكذا يُخبرنا التاريخ، فامتلاك القوة علم، أمَّا استخدامها -بكل درجاته- فهو فن، لا يبوح التاريخ بأسراره لغير القادرين على حفظها وتأويلها. احترام حقائق الجغرافيا، أحد أهم دروس التاريخ، التي خلصت إليها القارة العجوز (أوروبا)، بعد حروب أتت على الأخضر واليابس. أمَّا القوة المنشئة لوقائع التاريخ، فهي أكثر الوسائل فاعليَّة لترويض حقائق الجغرافيا. التعايش مع الحقائق، قد يكون أكثر فنون السياسة تعقيدًا، وأكثرها تطلُّبًا لامتلاك القوة. الجوار مع إيران في الخليج، حقيقة جغرافيَّة، لم يَسعَ أحدٌ في الخليج لتغييرها، وإنَّما حرصت دوله الست على تبنِّي سياسات حُسن الجوار معها، وتنمية المصالح المشتركة، وتعزيز التبادل التجاري لصالح جميع الشعوب في الدول المطلَّة على الخليج. في ظل توازن قوى دولي صارم، أمكن في معظم الأحيان إدارة علاقات الجوار لصالح الاستقرار الإقليمي، لكنَّ اختلالاً في توازن القوى بسبب تبدُّل أولويات القوى العظمى، قاد المنطقة إلى حافَّة الخطر، حين تصوَّر الإيرانيُّون أن بوسعهم تغيير قواعد اللعبة، وبسط رؤيتهم على الإقليم. تطلُّعات طهران إلى الهيمنة على الإقليم، خرجت من طور التلميح، إلى طور التصريح، أمَّا الوقائع التي أنشأتها إيران لتحيط بالجزيرة العربيَّة من أطرافها، فهي بادية لكلِّ مَن تطلَّع على الخارطة، ليرى الحضور الإيرانيّ في العراق وسوريا ولبنان شمال الجزيرة العربيَّة، وفي اليمن من جنوبها، وحتى شرق جزيرة العرب حيث تطل إيران عبر الخليج. أخطر ما في التهديد الإيراني، أن بعض دول الإقليم لا تراه تهديدًا، أو لا تستوعب مقداره، أو لا تُقدِّر مدى إلحاحه، ما قد يعوق بناء تحالفات لا غنى عنها لإدارة الجوار العربي مع إيران، بكتلتها الجغرافيَّة، وبعمقها التاريخيّ. ولهذا فإنَّ ثمَّة حاجة في الخليج لتسويق التهديد الإيراني لمستقبل الإقليم كلّه. لا من أجل شطب إيران من فوق الخارطة، ولا من أجل نقلها بعيدًا قرب أمريكا اللاتينيَّة، وإنما من أجل التعايش السلمي معها. هذا التعايش السلمي، يحتاج أولاً إلى القوة، ولكونه «تعايشًا»، فهو عمليَّة مستدامة، ومستمرة، ومستقرة، أي لا تكفي لإنتاجها قوة وافدة، أو حضورًا عارضًا للقوة، وإنَّما يتطلَّب إنتاج هذا التعايش، إنتاج تحالفات من داخل الإقليم، تكون صاحبة مصلحة في فرض هذا التعايش السلميّ، وفي صيانته، وفي حمايته. إنتاج هذا النوع من التحالفات يحتاج أولاً، إلى بناء توافق إقليمي، يبدأ بتعريف مصادر التهديد، ثمَّ بتقدير مستويات ودرجات هذا التهديد، ثمَّ بتحديد مستويات القوَّة الكافية لردعه، ثمَّ بالسعي لامتلاك أدوات تحقيق تلك المستويات. بمقدار انضباط المصطلحات التي يجري التفاهم بشأنها، مثل تعريف التهديد ودرجته، والخطر ومصدره، دون أدنى غموض قد يثير الالتباس، بمقدار ما تنجح التحالفات أو تفشل. إيران التي تجاهر بتطلُّعها إلى حضورٍ دائم من خلال قواعد بحريَّة في اليمن، عند مدخل البحر الأحمر، وفي سوريا شرقي المتوسط، هي مصدر تهديد دائم، لا يمكن الردّ عليه، أو لجمه إلاَّ عبر نظام إستراتيجيّ للأمن يشمل الخليج العربي، والبحر الأحمر، ومنطقة شرق المتوسط. التهديد الإيراني إستراتيجي، لا مذهبي، ولا طائفي، كان موجودًا قبل الإسلام، وقبل الشيعة، والتغلُّب على هذا التهديد، يجب أن يكون باستدعاء الحسابات الإستراتيجيَّة، وإصلاح موازين القوى، وبناء التحالفات مع القوى صاحبة المصلحة من داخل الإقليم، وليس عبر تسويق، أو ترويج نعرات طائفيَّة، تنال من الوحدة الوطنيَّة لدول المنطقة، وتقود تلقائيًّا إلى استدامة الصراع، بدلاً عن استدامة التعايش السلمي. تسويق التهديد الإيراني للمنطقة، وبناء رؤية واقعيَّة للتغلُّب عليه، هو أكثر المهام إلحاحًا الآن. خاطبوا العقول قبل القلوب، واستنفروا السواعد قبل الحناجر. تحالف القوى الإقليميَّة صاحبة المصلحة المستدامة في استقرار الإقليم، هو الضمانة الحقيقيَّة لاستدامة تعايش سلمي بنَّاء مع طهران، يُدرك كافة أطرافه استحالة تبديل قواعد الجغرافيا، ويستوعبون إمكانية إنشاء وقائع جديدة على ضفاف حقائق قديمة. moneammostafa@gmail.com
مشاركة :