القيم الأخلاقية بين المشترك التوحيدي والضمير الإنساني

  • 12/10/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

طالما خضعت الديانات القبلية أو البدائية لنزعة اصطفائية، تجعل المؤمن بها مسؤولاً أمام إلهه عن أخطائه التي يقترفها في حق أحد أفراد عشيرته فقط، فيما لا توجد مشكلة في السلوك غير الأخلاقي ضد الغرباء، فقد يغشهم أو يسرقهم أو حتى يقتلهم من دون أن يشعر بالإثم أو الاعتداء على حرمة الدين، إذ لا يرعى الإله إلا قومه وحدهم. أما الأديان الراقية، خصوصاً التوحيدية فقد اتسمت بموقف أخلاقي أكثر اتساقاً وشمولية، ذلك أن القوانين الأخلاقية في الوحي التوحيدي تهدف إلى مصلحة البشر جميعاً حتى من غير المؤمنين بها، فالله رب الجميع، وسننه في الخلق كونية، ومن ثم كانت قوانين الأخلاق عامة وشاملة، كما أنها قوانين قبلية، تأتي (قبل) السلوك الإنساني ذاته حتى إذا ما أراد الإنسان أن يسلك طريقاً ما وجد بين يديه (القانون) الأخلاقي الموجه له. ولهذا كانت أكثر تعبيراً عن الفطرة الإنسانية قياساً إلى نمط الأخلاق النفعية التي تقيس أخلاقية الفعل بنتائجه، ومن ثم تفتقد للغائية والمعنى وتقع في أسر الأنانية الممجوجة، التي يحدها سقف العالم المشهود والأفق المحدود والغرائز المباشرة. في هذا السياق، تتفق الشرائع الثلاث للدين الإبراهيمى حول أن أعمال المؤمن وأفعال حياته، يجب أن تــكون مرتــبـطة بإيمانه الواعي وخشيته من الله. تخبرنا أسفار الكتاب المقدس، والقرآن الكريم، عن ثلاثة أنواع من الأفعال أو الأعمال وهي: أفعال السوء التي تشتمل على كل أصناف الذنوب مـن معـاص أو شـرور أو موبـقات أو آثام. والأعمال الفاترة التي لا تخالف لا الوصايا ولا الشرائـع ولكنها لا تــصدر عن فــعل مــحبة لله أو للإنسان. ثم الأعمال الصالحة التي تـنـطلق من الوصايا الإلهيـة، وتـهدف إلى تحقـيـق الخير والصلاح لكل البشر وللوجود الكوني ذاته. انعكست هذه الأنواع من الأفعال في وصايا موسى العشر، التي وردت في الإصحاح الخامس من سفر التثنية، وهذا نصها: - الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة مما في الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك إله غيور. - أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيّ، وأصنع إحساناً إلى ألوف من محبيِّ وحافظي وصاياي. - لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً، لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً. - اذكر يوم السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك، لا تصنع عملاً ما، أنت وابنك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي دخل أبوابك لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع، لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه. - أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك. - لا تقتل - لا تزن - لا تسرق - لا تشهد على قريبك شهادة زور. -لا تشته بيت قريبك، لا تشته امرأة قريبك، ولا عبده ولا أمته، ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك(تثنية، 5 : 6- 22). وتكاد تلخص موعظة الجبل الإنجيلية هذه الأنواع من الفعال ولكن بصيغة تبشيرية لا تحذيرية كما وردت في توراة موسى، فعندما رأى يسوع المسيح جموع الناس، صعد إلى الجبل. وما إن جلس حتى اقترب إليه تلاميذه، فتكلم وأخذ يعلمهم قائلاً: - طوبى للمساكين بالروح، فإن لهم ملكوت السماوات (أي جنات النعيم). - طوبى للحزانى، فإنهم يُعزون. - طوبى للودعاء، فإنهم سيرثون الأرض. - طوبى للجياع والعطاش إلى البر، فإنهم سيشبعون. - طوبى للرحماء، فإنهم سيُرحمون. - طوبى لأنقياء القلب، فإنهم سيرون الله. - طوبى لصانعي السلام، فإنهم سيُدعون «أبناء الله». - طوبى للمضطهدين من أجل البر، فإن لهم ملكوت السماوات. - طوبى لكم متى أهانكم الناس واضطهدوكم، وقالوا فيكم من أجلى كل سوء كاذبين. افرحوا وتهللوا، فإن مكافأتكم في السماوات عظيمة. فإنهم هكذا اضطهدوا الأنبياء من قبلكم». (متى، 5: 3 - 12). وعلى منوال ذلك التلاقي بين عهدي الكتاب المقدس (القديم، والجديد) يلتقي الكتاب المقدس والقرآن الكريم على سلم مشترك من المقاييس شبه الموحدة للأخلاق الإنسانية، وللآداب العامة الفردية والاجتماعية، ولقيم الضمير الحي، الواجب توافرها لدى كل مؤمن، يهودياً كان أم مسيحياً أم مسلماً. وهنا يمكن المقارنة بين وصايا موسى العشر، وموعظة الجبل كما عرضها إنجيل متى، وبين وصية لقمان كما عرضها القرآن مثالاً يحتذى ونموذجاً يجب على المسلم المؤمن السير على منواله في مجالات الأخلاق والآداب والقيم: «وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم. ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليّ ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون... يا بني أقم الصلاة وامر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور. ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختالٍ فخور. واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» (سورة لقمان، 19-13). وفي سياق هذه الأصول المشتركة، نجد تضامناً بين الكتب المقدسة الثلاثة حول حزمة قيم متكاملة تكاد تتفق حولها جل الحضارات عبر التاريخ، ومن ثم ينبع إيماننا بوجود أخلاقية إنسانية عابرة للأديان والثقافات، قد لا تنتظم في قوانين ضرورية موحدة وتفصيلية على غرار قوانين العلم الطبيعي، ولكنها تبقى متجانسة، تعكس خبرة المجتمعات، وحكمة التاريخ، ناهيك بمفهوم الخير العام الكوني الذي يجسد سعي الإنسانية المشترك إلى الحق والخير، ابتعاداً عن الشر والظلم، واتجاهاً نحو ضمير مشترك، قد يتجلى بألوان مختلفة في ثقافات متباينة، يميل بعضها إلى تغليب المكون الديني في الأخلاق، بينما تميل الأخرى إلى تغليب المكون العقلي فيها، ومن ثم تكتسب جميعها خصوصية ما «نسبية» في وسائل إدراك الخير وحصار الشر، ولكن تبقى ركائزه الكلية متجانسة، تنفي الخصوصية المطلقة في تعريف ماهية الخير وكينونة الشر. يمكن الادعاء هنا بأن أخلاق العقل العملي أو نظرية الواجب لدى كانط (باعتبارها ذروة الأخلاق الوضعية) ليست نقيضاً لنظرية الحسن والقبيح عند المعتزلة التي اتخذت المنحى التوفيقي بين العقل والإيمان باعتبارها نقطة ذروة للأخلاق الدينية، بل ربما كانت خطوة على الطريق الصحيح إليها لأنها، كالقواعد القانونية الجيدة والعادلة، تحوي من المبادئ المشتركة ما يصون حياة البشر جميعاً، ويحقق سعادتهم كالأخلاق الدينية سواء بسواء، وإن احتفظ التصور المعتزلي بميزة الواقعية نتيجة استناده إلى مفهوم الضمير الديني، الذي يردع الإنسان عن الشر، على أساس الإيمان بحقيقة البعث خشية العقاب يوم الحساب، وإن لم تحل تلك الواقعية دون وجود مثالية دينية ينطوي عليها مفهوم الإحسان كمرحلة يرتقي إليها المؤمن يسمو فيها ضميره ويهيمن على نفسه، فيسلك على هديه ظاهراً وباطناً تحقيقاً لمنهج الله في حياته، بحثاً ليس فقط عن الجزاء المُدَّخر له في الآخرة، بل وأيضاً عن ذلك الشعور الداخلي بالرضى والسعادة في هذه الدنيا، والذي ينشأ عن إحساسه الجواني العميق بأنه يرضي الله في ما يفعل، وأن الله يرضى عن جهاده الخير. وهكذا لا تكون الأخلاق الوضعية المؤسسة على العقل نقيضاً للأخلاق السماوية المؤسسة على الإيمان، إلا إذا كان الدين محرفاً، أو كان العقل مراوغاً، فالمفترض أن يكون تكامل العقل مع الإيمان سبيلاً إلى إدراك خلقي أعمق، بمثل ما كان توافق العقل مع الإيمان طريقاً إلى إدراك معرفي أشمل.

مشاركة :