سأقف في هذا الجزء من المقالة عند مثال واحد من قائمة الفرص الضائعة في مشهدنا الثقافي، ألا وهي فرصة الأسئلة الجديدة التي أفضت إليها أحداثُ الحادي عشر من سبتمبر حول بنيتنا الثقافية، فقد كانت هذه الأسئلة – في البدايات على الأقل – جريئة، وعابرة للتيارات والمذاهب والمعارف والعادات، وشكّلت فرصةً ثمينةً لإنتاج أسئلة أكثر عمقاً، واقتراح إجابات تعيد الاعتبار لـ (العقل) بعد عقودٍ من سيطرة (العادة). وقد تأصّلت هذه الفرصة بعاملين مهمّين : الأوّل: الارتفاع (المتدرّج) لسقف النقد في الصحافة السعودية . والثاني: انطلاقة لقاءات مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في عام 2003م، وقد تميزت هذه اللقاءات بمستوى جيد من تمثيل التيارات والمذاهب والفئات في بلادنا، وبطرحِ موضوعات وقضايا ملحّة، متّسقة – في المجمل - مع أسئلة المرحلة، إضافة إلى اتساعٍ ملحوظٍ في حرية التعبير (أكّده كثيرٌ من المشاركين في اللقاء الأول) . لذلك يمكن أن نعدّ هذين المسارين (المقالات التي كانت تنشر في الصحف الورقية، واللقاءات التي كان يعقدها مركز الحوار الوطني) أكثر المسارات اهتماماً بالأسئلة الجريئة التي فرضتها الأحداث، وتحديداً ما اتصل منها بالجانب الثقافي. وثمة مسارات أخرى (يمكن أن يُشار إليها عند التوسّع) لكنها في الغالب إما متردّدة في الاحتفاء بهذه الأسئلة، متوجّسة من احتمالات إجاباتها، وإما مغلقة بسبب اعتمادها على الطرح العلمي الملتزم بالمناهج والمنهجيات والنظريات؛ لذلك تبدو – رغم أهمّيتها - أقلّ تأثيراً في الفضاء العام. -2- في تلك المرحلة : - استطاع كثيرٌ من كتّاب الصحف والمشاركين في الحوار الوطني تجاوزَ السائد من الأفكار إلى المختلف، والمستهلَك من الأسئلة والإجابات إلى الجديد (وربما المستفزّ) . - ونجحت بعضُ الصحف بنسبةٍ ما في إدارة التوازن بين الأصوات المختلفة، من خلال استكتاب أقلام متباينة في المرجعية الفكرية والتكوين الخاص. ويمكن أن نلمس جزءًا من هذا التوازن بين صحيفة وأخرى! - ونجح كذلك مركز الحوار الوطني في تأطير الحوار بين (المتباعدين) بإطارٍ موضوعي، شعر معه الكثيرون بأنهم متساوون في فرص التفكير والتعبير، وأنّ هذه المساواة مكفولة من الدولة بهدف تحقيق مصلحة وطنية تتطلّبها المرحلة . هذا المناخ الصحي مكّن الكتّابَ والمشاركين من مناقشة عدد من القضايا المهمة، تتعلق بـ «الوحدة الوطنية»، و»الغلو والاعتدال»، و»التطرف والوسطية»، و»تجديد الخطاب الديني»، و»إعادة قراءة التراث الإسلامي»، و»الحريات»، وغيرها. وكان الطرح الخاص والعام – في المجمل – مسكوناً بخطورة الأحداث وتبعاتها؛ لذلك كان يدور على القضايا لا على الأشخاص، ويستمدّ قوته من الحيثيات والمعطيات، لا من الاتكاء على الظرف أو على السلطة (السياسية أو الدينية أو الاجتماعية). وعليه فقد كانت الفرصة - بكلّ ما سبق وفي وجهها الخارجي على الأقلّ - مواتيةً لتحقيق مجموعة كبيرة من الأهداف المهمّة، في مقدّمتها: - تأسيس حالة من الحوار الجاد بين رموز المشهد الثقافي من جهة وبينهم وبين مؤسّسات الدولة من جهة أخرى؛ لتكون نموذجاً لحوارات واسعة بين أفراد وفئات المجتمع، وما من شك في أنّ هذه الحالة ستلقي بظلال إيجابية على التعليم والإعلام والمؤسسات المعنية بالفكر والأدب والفنون . - استغلال هذا الحراك النخبوي في تأسيس مظلة ثقافية (دينية وفكرية وقانونية واجتماعية) تنقل تفاعلنا من الهامش إلى المتن، وتجعلنا أكثر مسؤولية في التعاطي مع قضايانا الفكرية الملحّة، وأكثر انفتاحاً على الأفكار الجديدة ! - رفع مستوى مشاركة النخب في معالجة الأزمات التي يتعرّض لها الوطن، وفي تقويم ماضيه وبناء مستقبله، وذلك من خلال التفاعل المستمر من مؤسسات الدولة مع ما يطرحه الكتّاب وغيرهم، والاهتمام الجاد بمناقشة توصيات (الحوار الوطني)، والعمل على تأمين متطلباتها، ومتابعة نشاطها. هذه صورة بانورامية لبدايات تلك المرحلة (السنوات الثلاث الأولى بعد الأحداث)، وكانت – كما أسلفتُ – فرصة ثمينة (لو استُغِلّت) لصالح الوطن بوجهٍ عام والمشهد الثقافي بوجهٍ خاص، لكنّها للأسف تعثّرت بعد ذلك كما تعثّرت فرصٌ من قبل، فما أبرز أسباب هذا التعثّر ؟ وكيف تشكّلت ؟ وما الآثار التي تركتها ؟ هذا ما سأحاول عرضه – بإيجاز - في الحلقة الثالثة من هذه المقالة. - د. خالد الرفاعي
مشاركة :