هوان الغجر في بلداننا

  • 12/12/2016
  • 00:00
  • 30
  • 0
  • 0
news-picture

ثمة خيط غير رفيع يجمع بين السياسي الكردي صلاح الدين دميرطاش بزعيم قوات الحشد الوطني العراقي أثيل النجيفي وزعيم تيار المستقبل اللبناني سعد الحريري، فالثلاثة -على رغم اختلاف مواقعهم السياسية وتوجهاتهم الأيديولوجية وبنى مؤسسات دولهم- يُعتبرون «زعماء» سياسيين على جماعات أهلية أساسية في بلدانهم، لكن هذه الجماعات غير ذات قوة عسكرية «مادية» في دينامية السلطة الحقيقية في أي من هذه البلدان. ثم إن افتقار تلك الزعامات الشعبية إلى القوة العسكرية حول كلاً من هؤلاء إلى مُجرد فريسة ضعيفة في يد قوى منافسة، علماً بأن الأخيرة ربما تساوت مع تلك «الزعامات» شرعية وتمثيلاً جماهيرياً. دميرطاش برلماني كردي تركي، حصل على أكثر من خمسة ملايين صوت كمرشح في الانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة، ويترأس كتلة نيابية مؤلفة من قرابة ستين نائباً، ويُسيطر حزبه بشكل واضح على كل البلديات في جنوب شرق تركيا. لكن مذكرة واحدة من الادعاء العام، مليئة بالخطابية المتلاعبة بوتر «العصبية القومية التركية» كانت كافية لسجن دميرطاش، بتهمة الإرهاب وتهديد وحدة البلاد ومساندة التنظيمات المتمردة عبر الترويج لشعاراتها! ليس لأحدٍ أن يتخيل أن ذلك كان يُمكن أن يحدث لو كان حزب دميرطاش شريكاً حقيقياً في السلطة، وبالذات في المؤسسات ومراكز القوى الحقيقية في الكيان التركي. وهو أيضاً ما يستحيل تصوره لو كان دميرطاش من أبناء الجماعة الأهلية المركزية التي تعتبر نفسها «صاحبة البلاد» وذاتها وجوهر سلطتها، أي الأتراك المسلمين السنّة الأحناف. في سياقٍ شبيه، أصدر القضاء العراقي مذكرة توقيف بحق محافظ الموصل السابق أثيل النجيفي، بذريعة ترؤسه تنظيماً عسكرياً «غير قانوني» يسعى إلى المشاركة في عملية تحرير مدينة الموصل من تنظيم داعش. الغريب أن هذا القضاء العراقي أصدر هذه المذكرة بحق الشخص الوحيد الذي يتكون تنظيمه الميليشيوي من أبناء مدينة الموصل، بينما يستميت القضاء وعبر أعلى مؤسساته لشرعنة العشرات من العُصب المليشياوية الأخرى، التي تسعى لأن تقتحم مدينة الموصل ذاتها. لكن الفرق أن النجيفي لا ينتمي هو وتنظيمه إلى الجماعة السلطوية المركزية العراقية، أي العرب الشيعة الموالين لإيران، لذا فإن استبعاده وتنظيمه من اللعبة السياسية، ومن ثم تحطيمه معنوياً ومادياً، أمرٌ يمكن أن تُبذل في سبيله كل مؤسسات الدولة ومواثيقها وأدواتها وأجهزتها. الأمر ذاته ينطبق على رئيس الكتلة النيابية الأكبر في البرلمان اللبناني سعد الحريري، الذي أُجبر بعد عامين ونصف العام على القبول بمرشح حزب الله لرئاسة الجمهورية، فيما العكس كان يجب أن يحصل منطقياً، لو كان الحريري مُمثلاً للجماعة التي تستحوذ على القوة والسُلطة الفعلية المركزية في البلاد مما يستحوذ عليه حزب الله. ومثل الحريري والنُجيفي ودميرطاش، هناك عشرات الأمثلة عن سياسيين وتنظيمات وجماعات يتم تحطيمها سياسياً ومادياً فقط لأنها ومشاريعها لا تنتمي إلى الجماعات والتشكيلات المؤسسة للكيانات، والمستولية على السلطة الفعلية في هذه البلدان. ثمة العديد من الأسباب المُركبة التي تنامت وأدت إلى أن تتكثف هذه الأشكال من «العنف السياسي»، لكنها مجتمعة تؤشر إلى تصاعد ظاهرة في منطقتنا لن تؤدي في النهاية سوى إلى استمرار الحروب الراهنة إلى ما لا نهاية. فكأن الدولة من خلال مؤسساتها التشريعية والقضائية، صارت مجرد أداة في يد السُلطة والجماعة المركزية في هذه البلدان، بما في ذلك تلك التي عرفت تجارب معقولة من الديموقراطية وفصل السلطات، كلبنان والعراق وتركيا. الأمر الآخر أن هذه الجماعات السلطوية المركزية باتت في حِلٍّ من أي مواربة في التعبير، بحيث تمارس بوضوح توجهاتها الطائفية والقومية والإقليمية، وقد باتت بشكلٍ ما مُستغنية عن أي التزامات نسبية تجاه توازنات وفروض اللعبة السياسية والاجتماعية الداخلية، وتعتبر أن القوة المحضة وحدها هي الحكم الفاصل في علاقاتها وتوازناتها مع القوى الأخرى. وهي أخيراً تعني أن انفصاماً مُتراكماً بين المراكز والأطراف بالمعنيَين الجغرافي والاجتماعي بات يتنامى، فإذا كان الكُرد والعرب السُنة هم أطراف تركيا والعراق الذين لم تعد السلطة المركزية معنية برضاهم، فالسنّة اللبنانيون الذين يقيمون في مناطق كثيرة من طرابلس والبقاع يشكلون الموقع ذاته، فالسلطة باتت تفضل للأطراف المزيد من العُزلة والتهميش بدل بذل الجهد لدمجها، الذي قد يكون ثمنه شيئا من الشراكة وتقاسم السلطة والموارد. وهذه في عمومها جوهر علاقة «أصحاب الذوات» مع «غجرهم» دائماً وأبداً.     * كاتب سوري

مشاركة :