رأينا في مقالنا السابق أن مؤلِّف «جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير» كثيرًا ما يكشف عن عدم معرفة اسم المكان الذي يحاول أن ينسب إليه ما ينسب، ولا يعرف معناه، ولا يعرف طبيعته، ولا تاريخ إطلاقه. وإذا كان (كمال الصليبي)، في ما مضى، قد اقترف في مجازفاته التخمينيَّة الزعم أن بيوتًا عائليَّة في جبال (فَيْفاء) هي قُرًى توراتيَّة بقضِّها وقضيضها، فها هو ذا تلميذه النجيب يطوِّر تلك المزاعم، متوسِّعًا في مخيالها الخرافي ذاهبًا إلى أن بيوتًا عائليَّة كانت مُدنًا توراتيَّة بأكملها، حسب ما تمَّ عرضه في الحلقة الماضية من هذه القراءة! لذلك لا تَعجب؛ فالعجيب أن تَعجب ممَّن ستجده يخبرك، في موضعٍ آخر من كتابه، أن (خثعم)- حسب تحديداته الجديدة- تقع في (جازان)! فقد قال عن (بعلوت) ما يأتي: «بعرة/ بعرت في خثعم بجيزان»!(1) فإذا كان لا يعلم عمَّا يتحدَّث، ولا يعرف الأماكن البارزة أمامه على الخريطة، الماثلة بأسمائها نُصْبَ عَيْنَية إلى اليوم، فأنَّى له أن يدَّعي معرفة الأماكن الواردة في التوراة، وقد حار فيها الأوَّلون والآخِرون؟! ذاك أن مَن يقول إن «خثعم في جازان»(2) حريٌّ أن لا يعرف شرقها من غربها، فضلًا عن أن يؤلِّف كتابًا في التاريخ والجغرافيا ليؤوِّل ميثولوجيَّات التوراة وجغرافيَّاتها. ولكن لا غرو، فمَن يزعم- بلا دليل يُعتَدُّ به- أن مواطن (بني إسرائيل) كانت في جنوب غرب الجزيرة العربية، بوسعه أن يقول إن بلاد خثعم تقع في جازان أو حتى في (الحبشة)! فهذا أهون من ذاك، وإن كانا على وتيرةٍ واحدةٍ من التخليط. كما أن من يسمِّي قبيلة (الرُّوَلَة)، العربيَّة المعروفة بمكانها ومكانتها في شَمال الجزيرة العربيَّة: «قبيلة الروالة»، موحيًا بأنها قبيلة حجازيَّة، ثمَّ موردًا احتمال أنها تنتمي إلى (ءرءل/ أرائيل/ أَرْئِيْلي)(3)- الابن الأخير لـ(جاد بن يعقوب/ إسرائيل)، وهو ممَّن جاء مع يعقوب إلى (مِصْر)(4)- مَن يزعم هذا، لا مبالغة في القول إنه لا يعرف شَمالها من جَنوبها أيضًا! وبذا يشمل شَمال الجزيرة مع جَنوبها في العزو إلى بني إسرائيل، مدرِجًا في تخرُّصاته أسماء القبائل والأماكن: (عسير) و(الرُّوَلَة) وغيرهما. ويا ليته- اعترافًا بجهله بالمواضع والقبائل- اتَّبع ما فعله في تطرُّقه إلى بعضها من عدم ذكر شيءٍ عن أماكنها، كإشارته إلى (حشمون)؛ حيث قال: «ضمن الاحتمالات العديدة أرجح أن الموقع المقصود هو «الخشمان/ خشمءن».»(5) وسكتَ؛ فهو لا يدري أين (الخشمان) هذا، في ما يبدو! على الرغم من انتفاء الفائدة في ذِكر الاسم غُفلًا من تحديد مكانه! ولكن بعض الإثم أهون من بعض!(6) ومع هذا كلِّه ما ينفكُّ يُخامره الافتتان بأنه يملك مفاتيح التأويل الجغرافي والتاريخي واللغوي لنصِّ التوراة، على أساسٍ واحدٍ لا ثاني له، هو أنه نصٌّ يُحيل إلى مَواطِن في (جازان) و(عسير) و(غامد وزهران)! حتى إنه ليجد أسماء كثيرة لها ما يقابلها في (فلسطين)، حسب علماء التوراة - مثل: (يريحو= أريحا؛ بيت حجلة= نبع حجلة؛ هعربة= الغرابة؛ هفره= تل فارة؛ جبع= جبع؛ هرمه= الرام؛ هكفيرة= خربة كفيرة)، وكلُّها أماكن في فلسطين يقترحها علماء التوراة للأسماء الواردة في «العهد القديم»، ومثلها أسماء عثر عليها العلماء في (الأردن)- ومع ذلك يأبى إلَّا أن ينقِّب عن أسماء شبيهة في الجزيرة العربيَّة، مهما كلَّفه الأمر من تعسُّف! وإذا لم يجدها في أسماء الأماكن ألصقها بأسماء القبائل!(7) بل لقد توقَّف عند النقش الطويل على الحجر المؤابي، الذي يعود إلى (ميشع)، ملك (مؤاب)(8)، والذي عُثِر عليه في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، شرقيّ (البحر الميِّت)، وفيه يخلِّد ملك مؤاب أخبار حروبه ضدّ (عمري) ملك (إسرائيل) وابنه (أخاب)، مسجِّلًا انتصاراته على (بني إسرائيل)، ذاكرًا أسماء المدن التي احتلَّها أو بناها. والنقش وثيقة صارخة على أن مَواطن بني إسرائيل كانت، إذن، في جوار المكان الذي عُثِر فيه على ذلك النقش المؤابي، أو على أقصَى احتمال في أماكن من شَمال الجزيرة العربيَّة. وعلى الرغم من هذا فإن المؤلِّف ظلَّ مُصِرًّا على أن يبحث عمَّا ورد في ذلك النقش نفسه في جنوب الجزيرة العربيَّة، وكيفما اتَّفق! وممَّا ذَكَرَه حول تلك المدن الواردة في النقش قوله، مثلًا: «...وقريتن- صيغة الجمع لـ«قريت»، التي هي (القريات) هنا بصيغة جمع التكسير [كذا!]، والتي تقع في جبل ضرم بتهامة. كما يذكر النقش الموقع «عرعر»، أي قرية (عرعر) في وادي بيحان بسراة عسير.»(9) فيما لقائلٍ أن يقول، على طريقة المؤلِّف، وما دامت المسألة مسألة أسماء: لِـمَ لا تكون «قريتن»: (القُريَّات)، في شَمال المملكة العربيَّة السعوديَّة غربًا، و«عرعر»: (عرعر)، في شَمالها شرقًا؟ وما أكثر مثل هذه الأسماء في كلِّ مكان، شَمالًا وجَنوبًا! ويختم احتطابه- وبالرغم من أن نقش ملك (مؤاب) قد عُثِر عليه في شرقيِّ (البحر الميت)- بالذهاب إلى أنه: «على قناعة بأن بلاد أو أرض مؤاب لم تكن في السَّراة فحسب، وإنما ضمت أجزاء من تهامة في منطقة القنفذة»!(10) والهدف من نقل مؤاب إلى هناك نقل إسرائيل نفسها إلى هناك، والسلام! * شاعر وناقد وعضو مجلس الشورى السعودي وأستاذ النقد الأدبي الحديث في جامعة الملك سعود في الرياض p.alfaify@gmail.com https://twitter.com/Prof_A_Alfaify http://www.facebook.com/p.alfaify http://khayma.com/faify (1) مُنَى، زياد، (1994)، جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير، (لندن: رياض الرَّيِّس)،137. (2) تقع (خثعم) في (السَّراة) بين (أبها) و(الطائف)، تحادّها (شمران) شَمالًا غربًا و(بالقرن) جنوبًا شرقًا. (3) انظر: مُنَى، 185. (4) انظر: سِفر التكوين، الإصحاح 46: 8- 16. (5) مُنَى، 138. (6) إذا كان يومئ إلى فخذ (الخشمان) من (مطير)، فهؤلاء إنما ينتسبون إلى جدٍّ لهم كنيته (أبو خشيم). على أن هناك أيضًا (الخشمان) من (عتيبة)، و(الخشمان) من (حرب)، و(الخشمان) من (بلي). وما أكثر «خُشوم» العرب! ولكن ما علاقة هؤلاء باسم المكان التوراتي (حشمون)؟! لا عجب، فقد اعتاد المؤلِّف ضرب أسماء القبائل بأسماء الأماكن! ثُمَّ ما علاقة (الخشمان) بـ(عسير)؟! لقد بلغ إغراء الحروف حدًّا لم يَعُد يميِّز بسببه بين أسماء القبائل والأماكن، ولا يعنيه ما إذا كانت في جَنوب الجزيرة العربيَّة أو شَمالها! (7) انظر: مُنَى، 171- 000، مثلًا. (8) تقع (مؤاب) على الامتداد الشرقي لساحل (البحر الميت)، على الشريط الواقع بين (المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة) وأرض (فِلَسطين) المحتلَّة. (9) مُنَى، 186. (10) م.ن، 189.
مشاركة :