الاحتفال بالمولد لم ينقطع في تونس، بشكليه الرسمي والشعبي، منذ العهد الحفصي إلى يوم الناس هذا، إلا خلال سنوات متناثرة بين الحربين العالميتين. المناسبة مثلت نتاج تراكمية فنية للإنشاد وفق الطابع التونسي والمغاربي بل ساعدت على صياغة المقامات الإنشادية التونسية ويشير الغابري إلى أنّ أوّل احتفال تونسيّ رسميّ بالمولد يرجع إلى العهد الحفصي وتحديدا في ظل عهد السلطان أبي فارس عبدالعزيز (1394م 1434م)، وقد اصطبغت طقوس الاحتفال في ذلك العهد بطابعين أحدهما جمالي وفني والثاني اجتماعي وإنساني. ومنذ ذلك العهد إلى واقعنا المعيش لا يزال الاحتفال بالمولد النبوي الشريف يحمل في طياته دلالات وارتسامات التضامن والتصالح والجمال. ولئن تقاطعت غالبية الاحتفالات الدينية في تونس، وعلى رأسها المولد النبوي الشريف، بألوان الأكلات الخاصة بها، فإنّ الفرضية المرجحة كامنة في الإصرار الذي تبديه العائلات التونسية على تعزيز علاقات الجيرة والتكافل الاجتماعي مع شريحة الفقراء والمساكين. وهو ما يفسّر طبيعة الأكلات المحضّرة في هذه المناسبة من عصائد (يوجد منها نوعان في تونس، واحد بالصنوبر الحلبي وآخر بالزبدة وزيت الزيتون) توفّر المدى والكمية اللازمة لتوزيعها على الأقارب والمعدومين من الفقراء والمساكين؛ إذ تبسط القراءة الأنثروبولوجية زاوية تفسير قوامها أنّ أكلة عصيدة الصنوبر الحلبي، التي يشار إليها في تونس بأنها عصيدة الزقوقو، كانت تمثّل أكلة العائلات التونسية البسيطة والمتوسطة ولم تدخل ضمن مأكولات العائلات المرفهة إلا عقب الاستقلال، بالضبط خلال السبعينات من القرن العشرين، إذ يروي المؤرخ عبدالستار عمامو أنّ ثورة علي بن غذاهم بتاريخ 1864 كانت إيذانا باستخدام الزقوقو كمادة غذائية أساسية حيث أنّ تلك الثورة “رافقتها حالة حادة من الجفاف مما اضطر سكان الشمال التونسي إلى استهلاك حبة الصنوبر الحلبي، التي تشبه في تركيبتها حب الدرع”. ولئن انتهى استهلاك الزقوقو بنهاية المجاعة، فإن العائلات التونسية بقيت محافظة عليه خلال أعياد المولد النبوي الشريف والمناسبات العائلية مع تمسكها أيضا بعصيدة الزبدة والزيت. هنا تشير الدراسات التاريخية إلى أنّ الدولة التونسية كانت تخصّص ميزانية لاحتفالية المولد تردف جزءا خاصا منها للفقراء والمساكين، وجزءا آخر للمشايخ والمؤدبين بجامع الزيتونة (الجامع الأعظم) وشيوخ الزوايا والطرق الصوفيّة الموزعة على تراب الإيالة. غير أنّ إحياء المولد النبوي الشريف يكتنف امتدادات وجدانية وجمالية راسخة تستوجب النظر إلى دلالاتها العميقة؛ إذ أنّ مسحة من جمال الذوق والذائقة تبصم احتفالية المولد، قوامها حلقات الأناشيد الدينية والذكر والمدائح النبويّة. ولم يجانب الباحث المغربي محمّد التهامي الحراق الصواب حين اعتبر أنّ الاحتفالية بالمولد النبوي مثلت الحجر الأساس لفنّ السماع الصوفي، وذلك بتشكيلها لمحامل فنية راقية ولألحان سامية لمجمل المدونة المدائحية، إضافة إلى أنّ المناسبة مثلت نتاج تراكمية فنية للإنشاد وفق الطابع التونسي والمغاربي ككلّ، بل إنها ساعدت على صياغة المقامات الإنشادية التونسية وهي مقامات معتمدة في تلاوة القرآن الكريم وفي المدائح النبوية. السلفيون ومن وافقهم ورافقهم يبذلون جهدا جهيدا في الاستدلال بالمباني اللفظية الدينية لتعميم “التحريم الناعم” على الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وعلى الرغم من المتاخمة الجغرافية بين ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، فإنّ تلاوة قصيدة الهمزية في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم تختلف من حيث الأداء الفنيّ بصورة واضحة بين هذه البلدان المغاربية. إلا أنّ الأهمية المعرفية والنفسية والأنثروبولوجية كامنة لا فقط في الرقي بالذائقة الفنية للمنشد والمدّاح، وإنما أيضا -وهذا هو الأهم- في استصحاب هذا الجمال الفني والذوقيّ إلى المساجد والجوامع بعد أن كانت مقتصرة على العبادات وأداء الطقوس. هذا الاستصحاب الذائقي، دون استعمال أي آلة أو معازف صوتية، في أماكن العبادات سيمثّل الميسم الأساسي في المزاوجة والمواءمة بين الجانب التعبدي من جهة، والجانب الجمالي من جهة ثانية مشكلا في فنّ الإنشاد والسماع الصوفيّ. ولئن تشهد ليالي المولد النبوي الشريف مواكب ذكر وتلاوة مدائح في زوايا ومقامات عدة على غرار سيدي أبي الحسن الشاذلي وسيدي أبي سعيد الباجي بالعاصمة وأخرى داخل الجمهورية، فإنّ يوم المولد يحتضن تقاطرا بشريا على جامع الزيتونة المعمور وجامع عقبة بن نافع لتلاوة قصيدة الهمزية في مدح خير البرية. ويبدو أنّ هذا البعد الجمالي هو الذي يمثّل نقطة الافتراق بين الطابع الديني المحلي والطابع السلفيّ المتنطع، الرافض لألوان الفنون ولصروف الرقي النفسي والروحيّ، ففي حين أنّ القابع في ظاهر النصّ أعجز عن المضي عميقا في المعنى، فإنّ المنقّب في المقاصد أدرك للجمال في الجلال، والعكس صحيح أيضا. يبذل السلفيون ومن وافقهم ورافقهم جهدا جهيدا في الاستدلال بالمباني اللفظية الدينية لتعميم “التحريم الناعم” على الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، غير أنّ كل مدونتهم النصية تقف لا فقط أمام مدونة تشريعية ودينية أخرى أكثر عمقا ودلالة، وإنما أيضا أمام محددات شخصيات قاعدية محلية وخصوصيات أنثروبولوجية ومسلكيات اجتماعية ونفسية صنع المولد النبوي الشريف إحدى لبناتها الجمالية والثقافية والحضارية أيضا. اقرأ أيضا: المولد النبوي الشريف.. اختلاف الطقوس وإجماع على استلهام القيم :: اقرأ أيضاً العرب يقتطعون تدريجيا من نفوذ إيران في أفريقيا روسيا تسعى لمد هيمنتها إلى المغرب العربي الثأر موروث تاريخي للجماعات المسلحة في مواجهة الدولة المصرية حلب المنعطف الحقيقي للحرب في سوريا
مشاركة :