رحيل أيقونة الفكر النقدي العربي صادق جلال العظم في برلين

  • 12/13/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

رحيل أيقونة الفكر النقدي العربي صادق جلال العظم في برلين لا يمكن للإنسان العربي أن يخرج من مآزقه الحضارية والوجودية إلا عن طريق الفكر الناقد والشجاع الذي يعري الواقع ويستوعب الماضي ويفعل في الحاضر تأسيسا للمقبل، لذا فإن خسارة أي صوت فكري عربي شجاع، على ندرته، هي خسارة جسيمة، لا أمل في تجاوزها غير إيلاء هذا الصوت الفكري وغيره الأهمية التي يستحق، وهكذا كان رحيل المفكر الشجاع والعقل العقلاني صادق جلال العظم الخبر الموجع الذي استثار المثقفين والقراء العرب. وكان آخر حوار لصادق جلال العظم مع مجلة الجديد خاض إثره سجالا فكريا خلاقا مع كتاب ومفكرين، في مشهد من النقاش الفكري المؤسس والنادر وقوعه. العربعواد علي- كمال البستاني- محمد ناصر المولهي [نُشرفي2016/12/13، العدد: 10484، ص(14)] العقل المبصر والصوت الشجاع توفي ليلة الأحد 11 من ديسمبر الجاري المفكر والأكاديمي السوري صادق جلال العظم عن عمر يناهز 82 عاما بالعاصمة الألمانية برلين، حيث كان يخضع للعلاج في أحد مستشفياتها، حيث فشلت عملية استئصال الورم الخبيث في المخ. ولد صادق جلال العظم في دمشق سنة 1934، درس الفلسفة في الجامعة الأميركية، وتابع تعليمه في جامعة يال بالولايات المتحدة الأميركية. عمل أستاذا جامعيا في الولايات المتحدة قبل أن يعود إلى سوريا ليعمل أستاذا في جامعة دمشق في 1977–1999، ثم انتقل للتدريس في الجامعة الأميركية في بيروت بين 1963 و1968. كما عمل أستاذا في الجامعة الأردنية، ثم أصبح سنة 1969 رئيس تحرير مجلة الدراسات العربية التي تصدر في بيروت. عاد إلى دمشق 1988 ليدرس في جامعة دمشق، وتمت دعوته من قبل عدة جامعات أجنبية ثم انتقل إلى الخارج مجددا ليعمل أستاذا في عدة جامعات بالولايات المتحدة وألمانيا. كتب في الفلسفة والمجتمع والفكر العربي المعاصر، إضافة إلى مساهمات في حقل الأدب. وهو رئيس رابطة الكتاب السوريين التي تأسست عام 2012 إثر انطلاقة الثورة السورية. من أعماله: “نقد الفكر الديني” و”الاستشراق والاستشراق معكوساً”، و”ما بعد ذهنية التحريم”، و”في الحب والحب العذري”، إضافة إلى أعمال أخرى كثيرة. فكر العظم النقدي ومواقفه امتداد حي وبليغ لموقف من الحياة ومن الإنسان في آن معا، فشلت محاولات القمع في منعه ونعى الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب المفكر السوري صادق جلال العظم، وأصدر الاتحاد بيانا موقعا من أمينه العام حبيب الصايغ بهذا الخصوص، مؤكدا أن صادق جلال العظم من المفكرين الكبار الذين لا يتساوى رحيلهم بالغياب، فهو علامة، ومسيرة، وتجربة راكمت أسئلة فوق أسئلة، معتدّة بمنهج في التفكير يعلي من شأن النقد بوصفه أداة من أدوات المعرفة لا غنى عنها. وأكد البيان على مستوى الشخصية الأخلاقية النقية للمفكر الذي ظل مخلصا لعالمه الذي يحمل عنوانا واحدا هو الحياة من أجل الحقيقة لا من أجل منصب أو مال أو أي من الأعراض الزائلة، ولذا كان انحياز العظم لقضايا شعبه السوري الذي يمر اليوم بمحنة الولادة الجديدة الصعبة. واختتم البيان بتعبير كتاب الاتحاد عن عميق ألمهم لرحيل المفكر العربي في منفاه بعد محنة المرض التي ألمت به، داعين له بالرحمة والمغفرة، ولذويه ومحبيه وتلامذته بالصبر والسلوان. أطروحات خالدة بدورهم تفاعل العديد من المبدعين العرب مع خبر رحيل المفكر صادق جلال العظم، حيث اعتبر الكاتب العراقي عواد علي أنه رغم رحيل العظم عن الحياة، وهو قدر كل إنسان، فإن أطروحاته الفكرية العقلانية التنويرية ومواقفه الثورية ستظل خالدة كما هي حال أطروحات ومواقف الذين سبقوه من الفلاسفة والمفكرين العظماء في التاريخ، لافتا إلى أن الراحل منذ بداية تجربته الفكرية، اقتدى بالحكمة السقراطية، مع مقولات التراث والحداثة والجدل الفلسفي الديني بذهنية منفتحة ومنظور نقدي جدلي، وواجه بشجاعة كل السهام التي وجهت إليه، وفضح بمنطق معرفي رصين ذهنية التحريم، والحلول الغيبية الماضوية لمشاكلنا المعاصرة، والتصورات الخرافية التي يهتدي بها العقل العربي الخامل. وفي رأي علي ليس انتماء العظم إلى ثورة شعبه ودفاعه عن حريته وكرامته، التي أهدرها الحكم الدكتاتوري القائم على التوريث والنهج الطائفي، ومنافحته عن حقه في نظام ديمقراطي علماني، إلا تعبيرا مخلصا عن انسجامه مع أفكاره التنويرية والثورية. ويستذكر الكاتب الأردني مجدي ممدوح أن العظم اشتهر من خلال نقده للفكر الديني منذ الستينات، حيث كان لكتابه “نقد الفكر الديني” صدى واسع، وخلق له مريدين ومعارضين. والعظم، كما يقول ممدوح، كان يرى أن نقد الدين هو أصل كل نقد. وقد وظف في ذلك مفاهيمه وأدواته الفلسفية ليقدم أعمق نقد للفكر الديني، الإسلامي والمسيحي الكنسي. ويبيّن ممدوح أن علمانية العظم تذكرنا بعلمانية عصر الأنوار الأوروبي التي قادها فلاسفة من أمثال فولتير، الذي نقل المجتمع من الفكر الغيبي إلى الفكر العقلاني. المفكر منذ بداية تجربته، اقتدى بالحكمة السقراطية ظلم الاستبداد بدوره يستذكر الإعلامي والأكاديمي الجزائري، مولود علاك، لقاءه بالمفكر السوري صادق جلال العظم في الصيف الماضي عندما طلبت منه إذاعة فايمر الألمانية أن يقوم بحوار مع الفيلسوف السوري بمناسبة حصوله على وسام أو مدالية الشاعر الألماني، جوته، الفاخرة تكريما لمساره الفكري والفلسفي من جهة، وبسبب استضافته من طرف مؤسسة فايمر الكلاسكية الشهيرة لتقديم محاضرة بعنوان “ليس للدولة دين، الدين للناس”، من جهة أخرى. يقول علاك “قابلت الرجل ومعي كتابه ‘نقد الفكر الديني‘. عرضت عليه إجراء الحوار فكان رده القبول. وأخبرته أيضا أن أجري معه حوارا طويلا لنشره كاملا في مجلة ‘الجديد‘ اللندنية فاستحسن الاقتراح. بهدوء تبادلنا أطراف الحديث حول مواضيع مختلفة. الأفكار كالأشخاص تهاجر وتغير المكان وستعيش بعد مغادرتنا لهذا العالم. هكذا كان إحساس الرجل عندما حدثته قليلا عن فكره ومساره. كان الرجل يجيب بهدوء وتأن وفي كلامه تتداخل مشاعر مختلفة ورؤى متداخلة ببعضها البعض. كان يبحث تارة عن المصطلح المناسب لتشخيص المشكلة وتارة أخرى كان يستنجد باللغة الإنكليزية ويراجع أفكاره مرة، ونسق التفكير الذي ينتمي إليه مرة أخرى”. يتابع علاك “كان هناك نوع من الارتياب والشك في فكره لا يمكن فصله عن المحنة السورية وما آلت إليه الدول العربية. فلا حماس ولا أمل التمستهما من لقائه. كان محبطا نفسيا جراء المحنة السورية التي كلفتة اللجوء السياسي في آخر حياته. فهل هذا هو الجزاء لنضاله التنويري الذي مارسه طيلة حياته؟ طبعا لا”. ويأسف مولود علاك لأن القدر لم يترك له المجال لموعد آخر مع العظم في برلين. مفكر شجاع تقول الكاتبة السورية، روزا ياسين حسن، “رحل اليوم ذاك الذي حرّك رمال الفكر العربي الراكد لقرون بفكره العلمي الجدلي. آراؤه العلمانية المثيرة للجدل جعلته واحدا من أهم ناقدي العالم العربي ذاك الذي انحسر دور العقل فيه. الفيلسوف والكاتب والمفكر الناقد والمراقب للحاضر بكل كثافاته وتغيراته المتسارعة، ذاك الذي فضّل عبء المسؤولية الفردانية وقلق الحرية عن أمان الجموع: د. صادق جلال العظم”. وتذكّر حسن بمجموعة من مؤلفات المفكر، وأشهرها كتابه “نقد الفكر الديني” 1969 الذي قُدّم بسببه إلى المحاكمة وسجن في لبنان، وكتابا “ذهنية التحريم” و”ما بعد ذهنية التحريم” 1992، و”دفاعا عن المادية والتاريخ”، و”ما العولمة؟”، و”في الحب والحب العذري”، كتابه الذي عشقته حسن، وغيرها من كتبه العديدة التي شكّلت مفترقا فكريا في المشهد الفكري العربي. العظم كان يرى أن نقد الدين هو أصل كل نقد وقد وظف في ذلك أدواته الفلسفية ليقدم أعمق نقد للفكر الديني وتلفت الكاتبة إلى الضيم الذي تعرض له المفكر إذ رغم أنه كان أستاذا زائرا في العديد من جامعات أميركا وألمانيا واليابان وبلجيكا، ورغم ترجمة أعماله إلى الكثير من اللغات الحية، لم يتلق يوما تكريما إلا جائزة “ليوبولد لوكاش”، للتفوق العلمي من جامعة توبينغن بألمانيا، وهو “الفاحص” بأداة العقل التساؤلي والنقدي والسجالي والمعياري التي لم تنحصر في حياة الأفراد والنخب، بل تعدتها لتشمل حياة الجماعات والمجتمعات والثقافات والمؤسسات. وترى الكاتبة العراقية لطفية الدليمي، أن رحيل صادق جلال العظم هو رحيل لعقل شجاع وفكر جريء سباق لكشف الخلل في الفكر العربي وما أحاط به من التباسات التحريم والتجريم، تقول “رحل الرجل الشجاع الذي فتح نوافذ الفكر على اتساعها، رغم العواصف التي هبت عليه من الجهات كلها. فضيلة الشجعان أمثال المفكر العظم أنهم يؤسسون بجرأة، وبصيرة مستنيرة لبسالة المواقف، وكشف الحجب في زمن الخوف والتردد والتربص بالأصوات الحرة. ستبقى أعماله المؤسسة مصابيح تنير المسالك لعشاق فكره وطروحاته، وسيبقى حاضرا في ضمائر محبيه وقرائه ومريديه، وسيخلد كما خلد الرافضون للزيف والمغالطات التي تناهض الفكر الإنساني الحر، هو الذي قال إن تأسيس أحزاب على أساس ديني أو طائفي لا يقل خطورة عن العودة إلى النازية، هو الذي ناقش الحداثة والحداثة العربية المنقوصة التي تتربص بها التحريمات، الرجل الذي تعلمنا منه أن نقلب صفحات تراثنا بوعي المتبصر لا بزهو المفاخر ولا برفض المتعصب. سلاما فيلسوف الأمل الذي سيخلد في ذاكرة الزمن”. يقول الناقد السوري مفيد نجم “نعرف أن وجودنا محكوم بالنقصان، وأن الحياة يمكنها أن تكون تعويضا على هذا الشعور التراجيدي بالنقصان، عندما يحاول الوعي أن يمنح هذا الوجود معنى عبر تحريره من عوامل الكبح وذهنية التحريم والاستبداد. إنه العقل الذي يبحث ويسائل محاولا توسيع فضاء الحرية حول هذا الوجود، وإعطائه معنى قيميا ينتصر فيه ومعه على هذا النقصان الذي نولد فيه”. يلفت نجم إلى أنه مع هذا الوعي اليقظ بدأت رحلة المفكر صادق جلال العظم، فكان اشتباكه مع الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي ممثلا بذهنية التحريم وسلطة النهي والتقييد لحرية الفكر والتعبير جزءا لا يتجزأ من معركة العقل العربي مع كل محاولات استلابه وقمعه من أجل التجديد والتطور والانتقال من الوجود المنفعل إلى الوجود الفاعل. لذلك كان على الصادق، في رأي نجم، أن يخوض معاركه على أكثر من جبهة بشجاعة المؤمن بقيم التنوير والحداثة عبر مساءلة الواقع والثقافة السائدين، من أجل إعلاء سلطة العقل وتوسيع فضاء الحرية ومنح الوجود الإنساني قيمة تثريه، وتحسّن من شرط هذا الوجود. من هنا كان فكر العظم النقدي ومواقفه امتدادا حيا وبليغا لموقف من الحياة ومن الإنسان في آن معا، موقف يؤسس لفعل حاضر لم تمنعه محاولات القمع والمنع من أن يتنامى ويتعمق في مواجهة الهزيمة التي يعيشها العرب في بعدها الذاتي، بوصفها اختزالا لواقع الاستبداد السياسي والديني وفشل مشروع التنوير والتحديث وإعادة نقد الموروث الثقافي لتجاوز كل معوقات التقديم وتحرير العقل والشخصية العربية من كل معوقات التقدم والإبداع. يتابع مفيد نجم “مع كل هذا الوعي النقدي لمفكر مهموم بأحوال أمته كانت مؤلفاته بدءا من كتابه نقد الفكر الديني، وحتى كتابه ما بعد ذهنية التحريم، مرورا بمؤلفاته النقد الذاتي بعد الهزيمة وذهنية التحريم وفي الحب والحب العذري علامات على طريق هذا الكفاح الفكري، الذي تلازم فيه النظري مع العملي سواء من خلال انخراطه في العمل الثقافي والإعلامي في مؤسسات المقاومة الفلسطينية بعد هزيمة 1967، أو عبر موقفه من الانتفاضة السورية وانحيازه إلى جانب ثورة شعبه من أجل الحرية والكرامة”. ويضيف “كل هذا جعلنا نتشارك معه في معركة الثقافة السورية من أجل الحرية والتخلص من سلطة الاستبداد والطغيان الجاثم بأبديته على صدور السوريين عند إنشاء رابطة الكتاب السوريين واختياره ليكون عنوانا لها من خلال قيادته لها. لكن الصادق الذي يترجل اليوم قبل أن يرى حلم الحرية الذي عاش لأجله، وفي لحظة صعبة من تاريخ وطنه والعالم، مع صعود قوى التطرف والعنصرية سيظل تراثه الكبير شعلة تحارب هذه الظلمة، وتضيء الطريق أمام الصاعدين إلى غد تنتصر فيه قيم الحرية والعدالة والحداثة، والنضال من أجل قيامة الأمة ومجد الإنسان”. وكان من المقرر أن يقيم اتحاد كتاب وأدباء الإمارات – فرع أبوظبي بالتعاون مع رابطة الكتاب السوريين ندوة بعنوان “صادق جلال العظم وسؤال التنوير” وذلك تكريما للمفكر العربي الذي كان يمر بوضع صحي صعب إثر العملية الجراحية المعقدة التي أجريت له مؤخراً في برلين، لتوافيه المنية بعدها في منفاه بعيدا عن وطنه سوريا. ومن المبرمج أن يتم خلال الفعالية عرض فيلم وثائقي قصير من إنتاج رابطة الكتاب السوريين يتناول بعض المحطات البارزة في مسيرة العظم الشخصية والفكرية، تليه كلمتا ترحيب متبادلتان بين الاتحاد والرابطة، ثم يقدم كل من المفكر الفلسطيني أحمد برقاوي، والناقد العراقي صالح هويدي، والشاعرة والإعلامية السورية فاتن حمودي أوراقا تتناول زوايا مختلفة في تجربة العظم، ثم تختتم الفعالية بتقديم شهادات التكريم. حيث يؤكد اتحاد كتاب وأدباء الإمارات أنه ينظر باحترام كبير إلى تجربة المفكر صادق جلال العظم، مع التأكيد أنه رمز من رموز الفكر النقدي العربي الحر والجريء، ومؤلفاته كان لها دور في تحريك المياه الراكدة وإثارة الكثير من الأسئلة التي عدت في مرحلة من المراحل مما لا يجوز مقاربته. :: اقرأ أيضاً معارض فرنسا بين الاستعادة والاستكشاف والمغامرة

مشاركة :