معارض فرنسا بين الاستعادة والاستكشاف والمغامرة بقلم: أبو بكر العيادي

  • 12/13/2016
  • 00:00
  • 17
  • 0
  • 0
news-picture

معارض فرنسا بين الاستعادة والاستكشاف والمغامرة لم تخل الساحة الفنية الفرنسية من معارض متنوعة في عام 2016 الذي شارف على الانتهاء، منها الاستعادي الذي يعيد إلى الأذهان تجارب سابقة لأعلام سجلوا أسماءهم بأحرف من ذهب في ديوان الفن العالمي، أمثال أميديو موديلياني وروني ماغريت وبول كلي على وجه الخصوص، ومنها الاستكشافي الذي يقدم لهواة الفن تجارب مغمورة كالفرنسي جان ميشيل ألبيرولا، أو مجهولة خارج نطاق بلدها الأصلي كالبرتغالي أماديو والكوبي، أو سجينة جدران مصحة نفسية، كالروسي يوجين غابريتشيفسكي، ومنها المغامر الذي يبحث أصحابه عن أساليب فنية مستحدثة، إما عن قناعة فنية وإما تعبيرا عن رؤية جديدة للفن كالصيني هوانغ يونغ بينغ، أو بحثا عن الحضور ولفت الانتباه بأي وسيلة كالفرنسي برنار لافييه. العربأبو بكر العيادي [نُشرفي2016/12/13، العدد: 10484، ص(16)] مزج بين الشرق والغرب في أعمال هوانغ يونغ بينغ مثل المعرض الذي أقامه مركز بومبيدو للفن المعاصر بباريس للفنان بول كلي (1879/1940) الحدث التشكيلي الأبرز الذي شهدته فرنسا خلال العام 2016، فهذا الفنان الذي نشأ في أسرة موسيقية، وتعلم العزف على الكمان في سن السابعة، وانضم إلى أوركسترا سمفونية بمدينة بيرن السويسرية عند بلوغه الثلاثين، لم يتفرغ للرسم إلاّ بعد زيارته تونس صيف عام 1914، رفقة صديقيه أوغست ماكه ولويس مواييت. أعلام كبيرة مـارس بـول كلي الـرسم منـذ صغـره ونشـر رسومـا كاريكاتيـرية في بعـض الصحف والمجـلات الألمـانيـة، واحتـرف المـوسيقى دون أن ينقطـع عـن دروسه الأكـاديميـة للفنـون الجميلة، وظـل متــرددا بـين فنـاني جيله، حتى تلـك الرحلة الشهيرة التي اكتشـف فيها الضوء والألوان الساطعة فاعترف بـأن “اللـون مَلَكـه، والتحم بـه حتى صـارا جسـدا واحـدا”، فهجـر المـوسيقى ليتفـرغ للفـن التشكيلي عبـر لوحات مائية تكعيبية، وأخرى تجريدية، ثم مربعات وفسيفساء لا تقيم وزنا للقواعد. ثم تلتها مرحلة مدرسة باوهاوس في فايمار قبل أن ينتقل إلى ديساو عام 1925، ثم إلى برلين عام 1932، حيث أغلقها النظام النازي الحاكم بدعوى أن نزوعها عالميّ، وأن فنانيها منحرفون، مما اضطر كلي إلى الهجرة إلى سويسرا التي ستمنحه جنسيتها وتقيم له بعد وفاته متحفا في مدينة بيرن لا يزال يحمل اسمه. ورغم تعرفه على كبار فناني عصره والتقائه بالكثير منهم خلال رحلاته، ظل بول كلي فنانا منعزلا، لرفضه الانتماء إلى أي مدرسة، فقـد عـاش حياته يجرب تقنيات ومواد ووسائل لا تني تتجـدد، وكـان دائـم البحـث عن الصيغة المثلى التي تلبي نهمه للاكتشاف، ورغبته في التعبير بشكل فنّي عن موقفه من فناني عصره، وحتى السخرية منهم، وهو الجانب الذي اختار المتحف تقديمه، إذ كان عنوان هذا المعرض “السخرية الرومانسية”، مع ما تتضمنه من هجاء وتقليد ساخر. الحدث الثاني هو معرض النحات والرسام الإيطالي أميديو موديلياني (1884/1920) الذي احتضنه متحف ليل للفن المعاصر، هذا الفنان الذي بدأ نحّاتا، وأظهر موهبة كبيرة في هذا الفن، ولكن حالته الصحية وقلة موارده المالية جعلتاه يهجر النحت، ليتفرغ إلى الرسم والفن التشكيلي. موديلياني بدأ نحاتا، لكن حالته الصحية وقلة موارده المالية جعلتاه يهجر النحت ليتفرغ إلى الرسم والفن التشكيلي وقد تميز بأسلوبه الخاص في رسم البورتريه ولوحات العري، وهو أسلوب أتاح له موقعا متقدما في الحركات الطليعية بباريس، لا سيما بعد أن تعرف على فنانين بارزين في تلك الفترة أمثال بابلو بيكاسو وأندريه دوران والمكسيكي دييغو ريفيرا والروسي شئيم سوتين، الذين ألهموه كثيرا وساعدوه على تطوير تقنياته. وفي المقابل، ما لبث أن تدهـورت صحته بعد إصابته بالسل، مع إدمانه الخمر والحشيش، ومات في مقتبل العمر، لم تلق أعماله في حياته ما تستحق، ولكن النقاد حيـوا جماليـاته المتفـردة بعـد وفـاته، وازدادت شهرته كفنان ملعون، عاش حياة قاسية. الحدث الثالث كان مع المعرض الذي خصصه مركز بومبيدو للرسام الفيلسوف البلجيكي روني ماغريت (1898/1967) الذي استفاد من السرياليين ثم من تيارات فلسفية عاشر أصحابها، وانتهى إلى أن الصورة لا تمثل الواقع، مقاربة مخصوصة للعمل للفني، عبّر عنها في لوحته الشهيرة “هذا ليس غليونا”. جمع ماغريت بين النحت والفن التشكيلي، وكانت أعماله في بدايتها أقرب إلى الانطباعية، قبل أن يكتشف التكعيبية والمستقبلية، وحركات الطليعة، ويخالط أوساط الحركة الدادائية في مطلع العشرينات، غير أن التحول الخطير في مسيرته الفنية كان يوم اكتشف عام 1925 “نشيد الحب” للإيطالي جورجو كيريكو، فوضع تصوره للفن يومها موضع مساءلة. ظل أسلوبه يطرح تمثلا مسرحيا للفكرة، خصوصا إذا كانت ملتزمة، ولم تمض أعوام حتى تحولت طبيعة لوحاته بشكل راديكالي، فصار مسعاه عقلانيا يجهد كي يقدم حلولا لـ“مشكلات”، ثم بدأت الفلسفة تحتل مكانا جوهريا في تأملاته منذ مطلع الخمسينات، غذتها مراسلات مع فلاسفة ومفكرين أشهرهم ميشيل فوكو، خاصة بعد صدور كتابه “الكلمات والأشياء” عام 1966، فالكلمات عنده غدَتْ صورا والفكرة باتت رمزية. تجارب مثيرة في الجانب الآخر احتفت فرنسا هذا العام أيضا بتجارب مثيرة لفنانين محدودي الانتشار، أولهم الفرنسي جان ميشيل ألبيرولا الذي رأى النور عام 1953 بمدينة سعيدة الجزائرية، يؤثر العزلة حتى وهو في حيّ مونبرناس الشهير، الذي يشهد ماضيه وحاضره بحركة فنية نشيطة، ولا يملك من وسائل الاتصال الحديثة حتى هاتفا، لا جوالا ولا قارا، إذ يفضل تزجية وقته بقراءة كامو وفالتر بنيامين وهولدرلين ورامبو، والبحث في أعمالهم عما يمكن أن يستلهمه لصياغة عمل جديد، وباقتفاء خطاهم حيثما حلّوا ليرى العالم كما رأوه، أو لينظر إلى ما رأوه بعينيه هو، لعله يكتشف تفاصيل غابت عنهم أو هم لم يولوها أهمية كبرى. يتبدى في لوحاته متشبّعا بتجارب السابقين، عالما بأسرار فنهم، يعتبر نفسه سليل جوطّو وفيلاثكيث، مثلما هو سليل ميرو وكازيمير مالفيتش وسواهم، وإن كان يميل إلى تصوير الواقع على طريقته، ولكنه واقـع في شكل قِطع صغيـرة، مجزأة، متشظية. يتميز ألبيرولا كذلك بخلق صلات بين الفن من جهة وبين الأدب والرياضيات من جهة أخرى، في شكل مونتاج متواصل، على طريقة التيار التكعيبي الذي يقول إنه لم يتعلمه من جورج براك وبيكاسو بل من رواية “عوليس” للأيرلندي جيمس جويس. وثاني المغمورين الذين احتفت بهم المعارض الفرنسية هذا العام أماديو دي سوزا كاردوسو (1887/1918) أشهر فنان في البرتغال، رغم مسيرته القصيرة، فقد عبَر الدنيا مثل نجم آفل، متوهج السطوع وجيز الأمد، حتى لكأن حياته ممهورة بالسرعة، إذ قضى نحبه في سن الواحدة والثلاثين نتيجة إصابته بوباء الحمى الإسبانية التي اجتاحت شبه الجزيرة الإيبيرية قبل الحرب العالمية الأولى. موديلياني رسام البورتريه صحيح أن تجربة كاردوسو الفنية لم تتعد عشر سنوات، ولكنها كانت تجربة ثرية أبدع خلالها لوحات عديدة متميزة، بوّأته مكانة مرموقة في حركة الطليعة الباريسية في مطلع القرن الماضي، مع أنه كان يرفض الانتماء إلى أي تيار من التيارات التي ظهرت في تلك الفترة، ورغم الأعوام الثمانية التي قضاها بمونبرناس، قلب الحركات الطليعية النابض في تلك الفترة، ورغم الموقع البارز الـذي احتلـه وقتهـا، فـإن الفـرنسيين يجهلونه. والثالث في هذه المجموعة المحتفى بها، هو الروسي يوجين غابريتشيفسكي (1893/1979) الذي قضى قرابة نصف قرن في مصحة للأمراض العقلية، بدأ حياته كعالِم أحياء متميز، ثم مارس الرسم كمَهرب من العزلة، واستطاع أن يخلق عالَما خاصّا به وحده، بعيدا عن المدارس والتيارات الفنية السائدة. حتى وفاته، عاش حبيس مؤسسة نفسانية، فكان الفن شرط بقائه، لم يصبح رساما بسبب مرضه، بل إن المرض حفّز خياله، وفتح له آفاقا جديدة، كان يخطها في أحجام صغيرة، مستعينا بالرسوم المائية (أكواريل، غواش)، دون أن يتخلى عن فكره العلمي في إنجازها، فقد كان يُسلِم فرشته للتجربة ومفاجآتها غير المحسوبة، ويخلق أشكالا غريبة، شبيهة بخلايا مجهرية، أو أفراد يتنقلون في ديكور غامض، ولا ندري هل أنها صور عن زملائه كما يدركهم وعيه، أم هي أشباح الماضي. ما نعرفه أن غابريتشيفسكي كان يقول عن رسومه إنها تمثل الموت والحزن والانفعالات، والأوضاع المضحكة للأرواح وللعناصر التي على الأرض، واستحالة السعادة، والحالات الغريبة للروح وللرب الذي تاه هو أيضا في حلّ كل شيء. طوال عشرين عاما، كان نهبا لدفق من الإبداع، قبل أن ترتخي فرشته وتتراجع قوة الابتكار لديه، ما جعل أطباءه يفسرون تلك الأعراض ببدء التعافي، ولكن ذلك في الواقع، كان نتيجة العلاج بالمستحضرات الكيماوية، الذي وإن خفف آلامه وعذابه، حدّ من إلهامه وقلص خياله، هذه التجربة كان يمكن أن يطويها النسيان لو لم يكتشفها الفرنسي جان دوبوفييه عام 1950، ويساهم في نشرها والتعريف بها، وبصاحبها. خروج عن المألوف وفي باب التجارب الخارجة عن المألوف، قدمت فرنسا تجربة الصيني هوانغ يونغ بينغ الذي ولد في الصين عام 1954 واختار الاستقرار بإحدى الضواحي الباريسية منذ 1989. ويعتبر هذا الفنان الذي أسس مجموعة تسيامن دادا في ثمانينات القرن الماضي، من أبرز الفنانين الطلائعيين في بلاده، ساهم مع زملائه في أعمال راديكالية تقوم على صدم الذائقة السائدة عن طريق المفارقة والاحتجاج والعبثية، وكانت لتلك الأعمال صلات بالفن والحياة والسياسة، كما استفاد من الأساطير الميثولوجية والسرديات الفلسفية لخلق أعمال تمزج بين الشرق والغرب، وتسائل عالم اليوم وقضاياه. ثم انتقل إلى صياغة أعمال مذهلة تطاول من حيث حجمها أسقف كبرى القاعات، استهلها عام 1989 بـ“سحرة الأرض”، حيث فاضت كتبه المغسولة عن فضاء لافيلات بباريس، وأردفها بـ“سفينة نوح” في الكنيسة الخاصة بمعهد الفنون الجميلة بباريس، قبل أن يعرض حيوانات ميثولوجية في بيينال فينيسيا. تلك الأعمال، وإن استقت طبيعتها من الظرف التاريخي والسياسي والمجتمعي والمعماري لمقر العرض، غالبا ما تتخذ أحجاما عملاقة، ما جعله يشارك بانتظام في مهرجان “مومنتا” بباريس منذ عام 2007 بالتناوب مع فنانين آخرين من نفس الطينة أمثال أنسيلم كيفر وريشار سيرا وكريستيان نولنسكي وأنيش كابور ودانيال بورين وإيليا وإيميليا كابالو. وبعد أن عرض مؤخرا على شاطئ قرب سان نازير “ثعبان محيط”، وهو عبارة عن ثعبان عملاق من صنعه لم يبق منه غير هيكل عظمي طوله مئة وعشرون مترا، كإدانة منه للتلوث البيئي، عرض في متحف الفن المعاصر بباريس عملا مذهلا آخر، وهو عبارة عن بنية معمارية ملونة تحتوي على ثماني جزر صغيرة تتماهى ظلالها مع القبة البلورية للمتحف. أما التجربة الثانية فهي للفرنسي برنار لافييه البالغ من العمر سبعة وستين عاما، وقد احتضنها متحف العملة بباريس. كاردوسو لم تتعد تجربته الفنية العشر سنوات، ولكنها كانت تجربة ثرية أبدع خلالها لوحات عديدة متميزة بدأ لافييه مسيرته بإعادة طلي الأشياء في نطاق ما أسماه تأملات في الرسم الزيتي، فقام بطلي بيانو ونافذة وثلاجة ومرآة بنفس ألوانها الأصلية، ولكن بطبقة أكثر سمكا، زاعما أن الأثر يغدو بذلك الشيءَ وصورتَهُ في الوقت نفسه. وفي السياق ذاته أقبل على طلاء لوحة “طبيعة ميتة” لأندري لوت (1885/1962)، قبل أن ينتقل إلى مرحلة “والت ديزني”، حيث استعاد الديكور الذي يتحرك فيه ميكي ماوس بألوانه، ليقربه حسب قوله من المشاهد الذي يرى أشياء الحياة اليومية، ولا يتوقف عندها. ومنها مرّ إلى مرحلة التراكب، حيث كان يعمد كـل مـرة إلى وضـع شيء فـوق آخر، كوضع ثلاجة على خزنة، أو سندان على مكتب، أو آلـة تصـويـر على الأرض.. على غرار مارسيـل دوشامـب مبتـدع “الـريدي ميـد”، لاعتقاده أن ذلك ضرب خاص من ضروب الفن، تماما كالرسم والفن التشكيلي والنحت. ومن ثمّ أمعن في تجاربه المثيرة للجدل كعرضه في مطلع التسعينات سيارة ألفا روميو حقيقية تعرضت لحادث، ومنطادا مفشوشا، وقطعة من عمود كهربائي، ودبّا من وبر… زاعما أنه يريد أن يجعل المألوف لدى الناس شاعريا. التجربة الأخيرة خصصها مركز بومبيدو لما سُمّي بـ“الفن الفقير”، وهو تيار فنّي ظهر في إيطاليا منذ مطلع الستينات، للتنديد بمجتمع الاستهلاك والمطالبة بالحقوق الإنسانية والسياسية للمجتمعات المقهورة، ولردّ الفعل على حركات طالبوب آرت و“التقليلية” في الولايات المتحدة، وشمل الفنون التشكيلية والموسيقى و“الديزاين” والهندسة المعمارية والمسرح والسينما التجريبية. نهض هذا التيار على استخدام الخامات الأولية البدائية كوسائط تشكيلية تعبيرية، ونشأ بجهود مجموعة من الشبان كانت تلتقي حول حساسية فنية وسياسية معينة، وتركزت منذ ظهورها عام 1960 في ثلاث مدن إيطالية هي تورينو وجنوة وروما، ما يعني ثلاثة مسارح فنية ليست مرتبطة ببعضها البعض بالضرورة، لاختلاف المشارب والتوجهات، وإن كانت كلها تلتقي عند تصور عام لما ينبغي أن يكون عليه الفن في تلك المرحلة. فالغاية، كما يقول جرمانو شيلانت لم تكن اصطفافا خلف طريقة محددة في العمل، بقدر ما كانت تأكيدا على إعادة ترسيخ الصلة المباشرة بين المشاهد والخامات الطبيعية، وإبراز التقنيات الحرفية العتيقة التي تفتقر للخلفيات الثقافية. :: اقرأ أيضاً رحيل أيقونة الفكر النقدي العربي صادق جلال العظم في برلين

مشاركة :