< أسس الاتحاد الأوروبي نخب ليبرالية عولمية وقادته في كل مراحله بسبب الخوف من السوفيات في البداية ثم نشوة الانتصار في الحرب الباردة والاعتقاد بالانتصار النهائي للحضارة الغربية، ويبدو أن الأوروبيين عندما وضعوا القوانين الموحدة للاقتصاد والهجرة لم يخطر ببالهم أن العالم يعيش بشكل مختلف وأن الحروب والمآسي ستجبرهم على إعادة النظر. ازدادت العنصرية الأوروبية بشدة بسبب مشكلتي ملايين اللاجئين من دول أوروبا الشرقية الذين شكلوا ضغطاً على سوق الوظائف في الدول الأغنى والأعباء المتزايدة على الدول الغنية لمساعدة الدول الأفقر، وظهر ارتفاع كبير في قوة اليمين في هذه الدول وزيادة في جرعة العنصرية التي أصبحت واضحة بشكل متزايد، تلتها موجات الشعوبية التي وصلت إلى مرحلة خطرة من رفض الاستمرار في الاتجاه ذاته، وهو ما نتج منه أول رد فعل كبير في الاستفتاء البريطاني، وفي حال انسحاب بريطانيا، التي مثلت عضو ليبرالياً، سيميل الاتحاد إلى المزيد من السياسات المحافظة في ما يتعلق بالمسألتين الأكثر خطورة، وهما ملفي الهجرة والأمن، والمؤكد في كل الأحوال أن أوروبا لن تعود كما كانت. أوروبا وعلى رأسها بريطانيا ستدفع ثمن القرار البريطاني في أشكال عدة، منها بعض التراجع الاقتصادي، إذ تراجع الجنية الإسترليني فوراً وضاعت ترليوني دولار من أسواق الأسهم، ومن المتوقع أن يواجه الاقتصاد البريطاني الركود، وكذلك من المؤكد أن أوروبا لن تسهل خروج بريطانيا من الاتحاد بأقل الخسائر، بل على العكس قد تلجأ دول أوروبا إلى رفع خسائر بريطانيا من الخروج، والتباشير بدأت بمطالبة ألمانيا لبريطانيا بالإسراع في تقديم طلب الانسحاب من الاتحاد، ثم بخفض «موديز» لتصنيف بريطانيا الائتماني لإرسال رسائل للدول الأخرى التي قد تفكر في تكرار التجربة. خروج بريطانيا لن يكون سريعاً وسهلاً، بل سيكون هناك عامين لإعادة التفاوض على الاتفاقات كافة ولن يكون الخروج رخيصاً، بل ربما يكتشف المواطن البريطاني في الأشهر المقبلة أن ثمن الانفصال أكبر من ثمن البقاء في الاتحاد، مما يغير اتجاههم من الانسحاب التام إلى تعديل الاتفاقات للوصول إلى مرحلة أدنى من المشاركة مع أوروبا كالاتحاد الجمركي. واجهت الوحدة الأوروبية منذ بدايتها جدلاً حاداً بسبب عوامل عدة، منها اضطرار كل دولة للتنازل عن جزء من سيادتها الوطنية لمصلحة الكيان الجديد، مثل إقرار السياسات النقدية الخاصة بها، ثم أجبرت على التخلي عن عملتها الوطنية وانتقلت القرارات النقدية لمصلحة البنك المركزي الأوروبي، كذلك دخول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد أدى لظهور أعباء مالية كبيرة تتحملها الدول الغنية غرب أوروبا مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا لدعم اقتصاديات شرق أوروبا. يتركز معظم التيار الذي صوت لمصلحة الانفصال عن أوروبا في سكان أطراف إنكلترا، إذ يقل الاختلاط السكاني مع المهاجرين وترتفع نسب العنصرية وفي من تجاوزوا عمر ٥٠ عاماً، وأما سكان لندن المختلطة عرقياً وفئة الشبان فصوّت معظمهم للبقاء في أوروبا، أما المقاطعات الأخرى مثل أسكتلندا وأرلندا فصوتوا لمصلحة الاتحاد الأوروبي، لأن الأقليات تفضل دمج بلادها في كيان قاري واسع لتذويب قوة الكتلة القومية الحاكمة عبر الانتماء إلى كيان أكبر وأكثر تعددية يشترك فيه الجمع في القرار فيعجز اليمين المحلي الحاكم عن فرض شروطه داخلياً، مما يفسر إصرار الأقليات الانفصالية في أسكتلندا وأرلندا في بريطانيا وإقليمي كاتالونيا والباسك الإسبانيين وشمال إيطاليا وبلجيكا على البقاء في الاتحاد الأوروبي. ما قد يحدث هو عودة الروح الاستقلالية لأسكتلندا، فأحد أهم أسباب تصويت الأسكتلنديين لبقاء بلادهم مع بريطانيا هو بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، فالانتماء إلى كيان أوروبي كبير ومتعدد من شأنه تذويب العنصرية الإنكليزية المحلية، وانفصال بريطانيا الآن وانتصار اليمين الإنكليزي قد يؤدي إلى عودة صعود اليمين القومي الأسكتلندي الذي يرى أن تضحيته باستقلال أسكتلندا لمصلحة الوحدة مع بريطانيا لم يعد لها معنى بعد أن فرض اليمين الإنكليزي شروطه بالانفصال عن أوروبا. واجه الاتحاد السوفياتي وجود أزمات كبرى أدت إلى تفككه في ثمانينات القرن الماضي، ابتدأت من أزمة اقتصادية طاحنة، تلتها تفجير الأزمات الداخلية كافة من سياسية وقومية وعقائدية، وأدت أزمات الهوية بين المركز والأطراف إلى تفكك عملي كامل للاتحاد، وهو ما لا نتوقع حدوثه بالدرجة نفسها في الاتحاد الأوروبي، كونه بني على أساس قناعات حرة احترمت القرار السياسي والاقتصادي والوطني للدول المشتركة، فهو اتحاد اختياري، لكن قاومت الجماعات اليمينية هذا الاتجاه من اليوم الأول، واستطاعت تصيد الأخطاء المتراكمة للقيادات السياسية التي لم تستطع حل الكم المتراكم من القضايا السياسية والأمنية للاتحاد، لكن يمكن القول أن البقاء في الاتحاد الأوروبي ما زال يملك زخماً كافياً، ولكن لم يعد ممكناً حل القضايا عبر الحلول «الترقيعية»، بل إن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى «بيريسترويكا» تعيد ترتيب الكثير من الأوضاع، أو قد تلجأ أوروبا لامتصاص موجة اليمين والانفصال باستحداث إصلاحات تعيد لحكومات الأعضاء بعض صلاحياتهم الوطنية، وتحد أو تجمد الهجرة إلى بلادهم لسنوات مثلاً لامتصاص مخاوف السكان على أمن بلادهم وهويتهم الوطنية، وذلك قبل أن تتجه موجة الإحباط والانفصال إلى دول أخرى مثل إسبانيا، التي لديها أزمة في إقليمي كاتالونيا والباسك، أو أقاليم شمال إيطاليا أو بلجيكا، مما يعزز فرضية تشدد هذه الدول في مفاوضات انسحاب بريطانيا لرفع الثمن عليها، لأن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيشجع على مطالبة أسكتلندا وأرلندا للانفصال عن بريطانيا، وإن حدث ذلك سيفتح باباً واسعاً لتفكيك كل من إسبانيا وبلجيكا وإيطاليا وأقاليم أخرى في القارة. الولايات المتحدة التي تحملت جزءاً مهم من أعباء إعادة بناء أوروبا عبر مشروع مارشال الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية، تريد أوروبا قوية لكن ليس لدرجة منافستها في القرار الدولي، وتريدها مستقرة مزدهرة اقتصادياً لتتحمل جزءاً أكبر من تكاليف الدفاع عن القارة التي تتحمل الولايات المتحدة جزءاً ضخماً منها، في الوقت الذي تعاني فيه الولايات المتحدة من تراجع اقتصادي كبير لن تسعد بالانفصال الذي سيهدد قوة ودور بريطانيا وأوروبا في الدفاع عن القارة أو دورها القيادي في حلف الناتو في مواجهة التوسع الروسي الخطر في جورجيا ثم أوكرانيا والقرم. أما روسيا الأكثر سعادة بانسحاب بريطانيا كونها الخصم التاريخي والسياسي والعرقي السلافي منذ عهد القياصرة، ستسعى بكل الوسائل لتفكيك القارة عبر إلهام وتشجيع الجماعات اليمينية في أوروبا لفرض الإرادة التوسعية لروسيا. * محلل استراتيجي.
مشاركة :