تعرضت الليرة التركية لهزة قوية في الآونة الأخيرة، دفعت بالرئيس رجب طيب أردوغان إلى دعوة مواطنيه إلى تحويل ما بحوزتهم من عملات أجنبية إلى الليرة أو الذهب؛ بهدف إنعاش وتقوية العملة المحلية أمام نظيراتها الأجنبية. وبصرف النظر عن مدى الاستجابة الشعبية لتلك الدعوة، فإن نداء أردوغان في حد ذاته، يكشف عن أزمة حقيقية للعملة التركية أمام العملات الأجنبية، خاصة الدولار، وقد استجابت بورصة إسطنبول للأوراق المالية للدعوة، فيما أكدت وزارة الدفاع التركية أنها حولت أصولها بالدولار واليورو إلى الليرة. لكن الوضع السيئ لليرة حاليا لم يكن في نظر عدد من الأكاديميين إلا رأس جبل الجليد الظاهر للعيان، من تعرض مسيرة الاقتصاد التركي لأوضاع لم يعتد عليها خلال السنوات الماضية، فعوامل القوة التي يمتلكها مقارنة بالعديد من الاقتصادات المماثلة في درجة التطور والنمو، لم تحل دون إصابته بضربات متتالية تركت بصمات واضحة على المسيرة الاقتصادية التركية في الوقت الحالي على الأقل. وتعتقد الدكتورة فلورا دونالد أستاذة الاقتصاد الدولي بأن الاقتصاد التركي يمر بتحديات لم يعتد عليها من قبل، وتوضح لـ "الاقتصادية"، أنه بالرغم من أن الاقتصاد التركي نما بمعدل 4.5 في المائة خلال الربعين الأول والثاني من هذا العام، إلا أنه مني بتراجع شديد في الربع الثالث من هذا العام (يوليو - أغسطس – سبتمبر) حيث انخفض معدل النمو إلى 1.8 في المائة لأول مرة منذ عام 2009. وتضيف دونالد أنه إذا كان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي قد بلغ 6.1 في المائة فإنه من المتوقع ألا يتجاوز 3 في المائة هذا العام، ولا شك أن هناك مجموعة من العوامل المتداخلة وراء ذلك الوضع، بعضها سياسية بعد الانقلاب الفاشل وأخرى اقتصادية نظرا للاضطرابات في المنطقة. وأشارت دونالد إلى أن الليرة التركية كانت تتراجع في الحقيقة في مواجهة الدولار منذ بداية العام، فمن يناير الماضي وحتى الآن فقدت ربع قيمتها، لكن وتيرة التراجع زادت بلا شك سواء تعلق الأمر بمعدل الانخفاض أو وحداته بسبب الأزمات التي تمر بها أنقرة. لكن بعض الخبراء يعتقدون أن التراجع الراهن في الاقتصاد التركي، يعود إلى عوامل لا يعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مسؤولا عنها، ويقول لـ "الاقتصادية" إليوت ماك كاي الباحث المختص في الاقتصادات الناشئة، إن الليرة التركية ليست حالة استثنائية فيما يتعلق بانخفاض سعر صرفها، فعملات الاقتصادات الناشئة الأخرى مثل البرازيل والأرجنتين والمكسيك وإندونيسيا وتايلاند وماليزيا تمر جميعها بأوضاع مماثلة، فقد أدى الارتفاع التدريجي في أسعار النفط بعد اتفاق "أوبك" بخفض الإنتاج، إلى ارتفاع أسعار الخام نسبيا، ما أوجد ضغوطا تضخمية على الاقتصاد التركي، وزاد من تكلفة الواردات، خاصة أن أنقرة تستورد قرابة 90 في المائة من احتياجاتها النفطية، وترافق ذلك مع تأثر الاقتصاد العالمي بفوز مرشح الحزب الجمهوري الأمريكي بانتخابات الرئاسة، وهو ما انعكس في تحسن كبير في سعر صرف الدولار وبالتالي تآكل سعر صرف الليرة في المقابل. وإذا كان البعض يقدر القيمة الإجمالية للاقتصاد التركي بنحو 720 مليار دولار، فإن الوضع المتراجع لليرة وانخفاض سعر صرفها حاليا يدفع بالبعض للتساؤل حول قدرة الشركات التركية على التعامل مع ديونها التي تراوح بين 210 و225 مليار دولار. وأوضح لـ "الاقتصادية"، جيمس جرانت الخبير الاستثماري أن انخفاض قيمة العملة المحلية في الأوضاع الطبيعية يزيد من فرص تدفق المزيد من الاستثمارات الأجنبية إلى داخل البلاد، كما ينعش القطاع السياحي، جراء انخفاض تكلفة السياحة في ذلك البلد، لكن الأمر بالنسبة لتركيا مختلف، فانخفاض قيمة الليرة إلى نحو 3.47 ليرة لكل دولار ترافق مع إحداث إرهابية تعرض لها هذا البلد تراجع معدلات السياحة، وسط مخاوف من أن يؤدي تواصل هذا الوضع إلى مزيد من انسحاب رؤوس الأموال الأجنبية. وأشار جرانت إلى أن الهزة الراهنة أثرت على الاستثمارات الأجنبية المباشرة فخلال الأشهر السبعة الأولى من هذا العام تراجعت الاستثمارات المباشرة بنحو 68 في المائة وتحديدا من 7.5 مليار دولار خلال الفترة ذاتها من عام 2015 إلى 2.5 مليار دولار فقط هذا العام. وإذا كان البعض يعتقد أن أداء البنك المركزي التركي اتسم بدرجة مقبولة من "الاتزان" الاقتصادي، فإن إحجام البنك عن الإقراض وانخفاض معدلات الإقراض بصورة ملحوظة بين العام الماضي والآن، وتراجع معدلات الإقراض من 20 في المائة إلى 8 في المائة حاليا، قد حد بشكل ملحوظ من قدرة الاقتصاد التركي على تعظيم ما لديه من مزايا نسبية. وحول انعكاس التطورات الاقتصادية التي تشهدها تركيا على المصالح الخليجية سواء تعلق الأمر بالاستثمارات المباشرة أو التبادل التجاري بين الجانبين، يؤكد الدكتور يوسف عامر، أستاذ الاقتصاد الكلي الزائر في جامعة لندن، أن البنية الاقتصادية التركية قوية، والعلاقات الاقتصادية بين بلدان مجلس التعاون الخليجي وأنقرة تتسم بالصلابة، مشيرا إلى أن تراجع سعر الليرة يعود في جزء كبير منه إلى أسباب أمنية ونفسية، لكن هذا لا ينفي بروز تحديات يجب أخذها بعين الاعتبار، فحجم التبادل التجاري بين الطرفين يقف عند حدود تقارب الـ 14.5 مليار دولار، وإذا كانت الاضطرابات في سورية والعراق قد أعاقت فتح طرق لمزيد من التبادل التجاري عبر الشاحنات بين اسطنبول وبلدان مجلس التعاون، فإن انخفاض قيمة الليرة سيشجع حتما على زيادة الواردات الخليجية القادمة من تركيا. وتشير البيانات إلى أن قيمة الاستثمارات الخليجية في الاقتصاد التركي تبلغ نحو 15 مليار دولار، حيث شهدت تلك الاستثمارات قفزة ضخمة وتضاعفت بما يقارب 500 في المائة خلال السنوات الثلاثة الماضية. وحول أسباب تلك الطفرة يشير الدكتور يوسف إلى أن تعزيز العلاقات السياسية بين بلدان مجلس التعاون وخاصة السعودية وقطر من جانب وأنقرة من جانب آخر، واتخاذ الحكومة التركية مجموعة من القرارات الاقتصادية التي صبت في خدمة الوضع الجديد مثل رفع قيود التملك العقاري للأجانب، قد أسهم في زيادة الاستثمارات الخليجية، خاصة في القطاع العقاري حيث ذهبت ربع العقارات التي بيعت لأجانب في تركيا إلى مستثمرين خليجيين. ودعا الدكتور يوسف إلى مراقبة الوضع التركي من كثب، فمن وجهة نظره لم تستنزف الحكومة التركية جميع الخيارات الاقتصادية المتاحة لها لاستعادة توازنها المفقود، ولا ينصح في المرحلة الحالية بتصفية أو حتى تقليص الاستثمارات العربية في تركيا، فلا يوجد في الاقتصاد التركي ما يدعو إلى قلق كبير، لكنه مع ذلك يرى أنه إذا تدهورت الأوضاع مستقبلا، خاصة في ظل النبرة العدائية التي يبديها الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب تجاه الأسواق الناشئة، فربما يكون في مصلحة رؤوس الأموال العربية الحد من نشاطها وتقليص توسعاتها هناك دون الخروج التام من الأسواق التركية.
مشاركة :