الأنانية المتضخمة وأمنيات العام الجديد

  • 12/15/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

خلال فترة الشهرين المنصرمين، من جملة ما لوحظ في الآونة الأخيرة هو أن الكثير من النقاشات العقيمة ومقاطع الجدال الحادة والمناكفات غير المجدية والرجم بالكلام غير السوي في كثير من الأمور النقاشية في الأمور الدينية والدنيوية والثقافية، وحتى الرياضية، في الحراك لبعض المجموعات والديوانيات. وإن أحد منطلقات هذه المناوشات هو الأنانية الصارخة والأنا المتضخمة في أحد أو كلا طرفي النقاش، بنظرة فاحصة للأمر تتجلى أمور عدة من تلكم البيئات التي يكثر فيها الصراع الجدلي العقيم، الذي قد يتحول -لا سمح الله- في مرحلة لاحقة إلى صراع تصفيات، أو بلاغات كيدية، أو إقصاء أو تهميش وتجاهل متعمد لأبناء الوطن الواحد، أو العرق الواحد أو المجتمع الواحد، وحتماً كنتيجة طبيعية ستُستغل تلك البيئات البشرية المتفرقة المتشرذمة بكل الأدوات الشيطانية لصالح من يطمع بسلب الموارد واستنزاف الطاقات الذهنية البشرية في تلكم الأقطار أو المجتمعات. ورد على لسان أحد أصدقائي، المهندس محمد.ع، كلمات تأملية قد تكون رافداً من روافد هذا المقال، وأنقل بعضاً من كلامه بتصرف: "لا تختلف الناس في أديانها وتتشظى وتبتدع في الدين أو في غيره من الأمور عن جهل أو استذواقات؛ بل في أكثر الأحوال عن علم وبسبق إصرار بسبب البغي لدى العصبة المؤثرة سلباً أو التواقة للزعامة والبروز والاستحواذ، المتولّد من الأنانية المفرطة لدى تلكم العصبة المتمصلحة أو الساعية له، وأدنى درجات تلكم الأنانية المفرطة، أن يُشعِر الإنسان نفسَه أنه على حق مطلق، وأن غيرَه على باطل مطلق، ولعل الآية القرآنية الكريمة التالية تدعم وجهة نظري: "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم". ويدفع هذا أو ذاك المجموع البشري التواق إلى تحقيق هذا الشعور اللذيذ، حسبما يراه هو، إلى تجذير نزعة الطائفية أو أحد ألوانها المقيتة، فينحاز إلى أناه أكثر من انحيازه إلى ربه ومولاه، ولا يتورع الأناني السلبي عن الابتداع والتدليس والتلفيق في دين الله، من أجل ذلك الهدف في الانتصار وتحقيق المصلحة لذاته"، انتهى النقل بتصرف. "طبعاً السعي الحثيث لدى الأناني لخلق توافق ورؤية المواءمة الدينية بين الدين والمصالح الذاتية هو أحد ألوان التلويث الفكري الذي ساد، وما زال يسود، في بعض المجتمعات، بهدف خنق الضمير والتأنيب" انتهى النقل بتصرف. بعض أهل التاريخ الإسلامي يذهبون إلى أن 124 ألف نبي، ومنهم أولو العزم من الرسل، تعاقبوا على البشرية ليخلصّوها من أمراض آفة الشرك بالله وتهذيب تعاملهم وسلوكياتهم، فتحطمّت كثيرٌ من الأصنام الحجرية أو الطواغيت البشرية ومفاهيم العبودية، إلا أن الصنم الأكبر وهو حب الاعتداد بالنفس والأنانية الطاغية ما زال صنماً متجدداً في نفوس البعض من البشر، ولم يتحطَّم بعد في نفوس الكثير من البشر، ولعل الفساد المستشري في بعض بقع العالم وانتشار الطائفية المقيتة بألوانها والحروب المدمرة والتحريض ضد البعض الآخر، والعنصرية المفتولة والتعصب الديني وتغلغله لأكبر شاهدٍ على ما نذهب إليه من أمثلة واضحة لتضخم الأنا الفردية سلوكياً. لن نستطرد أكثر في استعراض الشواهد والتأملات لبلوغ الهدف، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الحلول تقبع في تشريع القوانين اللازمة أو تتمركز في التربية الأسرية الجادة أو تتمحور في فرض السلطة التنفيذية لسلطة القانون بالقوة أم ماذا؟ لعل كثيراً من مدارس الفلسفة والدين والقانون قد بذلت الجهود مشكورة السعي لترويض وتهذيب النفس البشرية على المستوى الفردي أو الجماعي، وكانت النجاحات متفاوتة من بقعة لأخرى، إلا أن الواقع البشري، وحسب ما يرصد من أنباء عالمية مختلفة، يدل على أن المشوار طويل جداً لتحطيم صنم الأنانية الأكبر داخل كل نفس بشرية. لعله من المفيد أن نستعرض بعض الأقوال المنسوبة لبعض مربي الإنسانية في ذلك للمثاقفة والاستشهاد والاستدراك، فمثلاً ينسب قول إلى رسول الإسلام والرحمة صلى الله عليه وسلم: "أعدى عدّوك نفسك التي بين جنبيك"، ونقل عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: "من استبد برأيه فقد هلك"، وفي قول آخر: "أقبل على نفسك بالإدبار عنها". وعن أحد أئمة الدوحة المحمدية، نسب على لسان علي بن الحسين السجاد، أنه قال: "ابن آدم، لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك"، ونقل من الإنجيل: وَلكِنِ اعْلَمْ هذَا أَنَّهُ فِي الأيام الأخيرةِ سَتَأْتِي أَزْمِنَةٌ صَعْبَةٌ؛ لأن النَّاسَ يَكُونُونَ مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمْ، مُحِبِّينَ لِلْمَالِ، مُتَعَظِّمِينَ، مُسْتَكْبِرِينَ، مُجَدِّفِينَ، غَيْرَ طَائِعِينَ لِوَالِدِيهِمْ، غَيْرَ شَاكِرِينَ، دَنِسِينَ، بِلاَ حُنُوٍّ، بِلاَ رِضا، ثَالِبِينَ، عَدِيمِي النَّزَاهَةِ، شَرِسِينَ، غَيْرَ مُحِبِّينَ لِلصَّلاَحِ، خَائِنِينَ، مُقْتَحِمِينَ، مُتَصَلِّفِينَ، مُحِبِّينَ لِلَّذَّاتِ دُونَ مَحَبَّةٍ ِللهِ، لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى، وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا. فَأَعْرِضْ عَنْ هؤُلاَءِ" (رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس 3: 1-5) وعن الفيلسوف فريدريك نيتشة في رائعته الأدبية "هكذا تكلم زرادشت" تحت عنوان (الانتصار على الذات): "عليك أن تصالح نفسك عشر مرات في النهار؛ لأنه إذا كان في قهر النفس مرارة، فإن في بقاء الشقاق بينك وبينها ما يزعج رقادك". وفي مكان آخر يقول: "إن الأنانية تثير قدراً من الرعب، إذ إننا اخترعنا السياسة لإخفائها، ولكنها تخترق كل النقب وتفضح نفسها لدى كل مصداق". إذاً تربية النفس وكبح جماحها وإخضاعها تحت السيطرة المستمرة أمر انشغل وما زال يشغل معظم القانونيين والحكماء والتربويين على امتداد التاريخ؛ لأن دول القانون قد تغيب في بعض المواقع، ولكن قوة الضمير موجودة داخل كل إنسان حي حيثما وأينما ذهب. وفي المقابل، شاهدنا نجاحات لبعض التجمعات وإنجازات في حقول مختلفة، وكانت المفارقة كبيرة جداً بين البناء والعطاء والبذل وتكاتف الجهود من جهة وبين التنطع والتلاسن والتحريض والتراشق والتشويش من جهة أخرى. طاقات كل تجمع بشري هي بين البناء والهدر، وشخصياً أرى أن جهد كل عنصر من أبناء مجتمعنا يجب بذله في مكانه المناسب؛ لتكون الطاقات داعمة وبناءة ومتراكمة لإحداث تعايش وعطاء وتأثير أكبر وأفضل، فالكل يبني الكل. مجرد أمنية أرجو أن تتحقق للعام الجديد، أنقل بعض ما قاله بعض الأولين: - السعادة تأتي من الإيثار، والشقاء يأتي من الأنانية. - لا تعتب على من يكثر التحدث عن نفسه، إنه غالباً لا يجيد التحدث في موضوع آخر. (أويس أراغون) - الأنانية تولد الحسد، والحسد يولد البغضاء، والبغضاء تولد الاختلاف، والاختلاف يولد الفرقة، والفرقة تولد الضعف، والضعف يولد الذل، والذل يولد زوال الدولة وزوال النعمة وهلاك الأمة. (كاكيا) ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :