لم يكن فلاديمير بوتين ليغامر في سوريا لو أن الغرب كان مهتماً بشأن البلد منشغلا بترتيب مستقبله. بدا أن الولايات المتحدة مرتاحة لقيام روسيا بما لا تريد واشنطن القيام به وهي لم تعط أي إشارة أمنية مهددة تحول دون ذلك. كان يكفي إشاعة تسرّب بضعة صواريخ مضادة للطائرات لتعيد تذكير رجل الكرملين بكوابيس أفغانستان. لكن واشنطن لم تزوّد المعارضة بهذا النوع من السلاح ولم تسمح للدول الإقليمية بالقيام بذلك كما أنها لم تشع ولو كذبا باحتمالات ذلك. أسس باراك أوباما للبناء الذي اعتمده خلفه دونالد ترامب للتبشير بودّ مع فلاديمير بوتين وتعاون مع روسيا. أحسنت موسكو إتمام صفقة إخراج السلاح الكيماوي السوري حين طالبت واشنطن بذلك حماية لأمن إسرائيل، وبالتالي أضحت روسيا عاملا إيجابيا بالامكان التعويل عليه من خلال التعاون وليس المناكفة. وفي المقاربة الأوبامية الترامبية لروسيا سعيٌّ لمعالجة "ملف" الصين، إما عبر الاقتراب من موسكو واستمالتها وحرمان الطرف الروسي من قوة روسية وازنة، وهذا مستبعد، وإما عبر إضعاف روسيا في سوريا وتسهيل تورطها الآن وتشجيع استنزافها غدا، وهذا صعب لكنه ليس مستحيلاً. بيد أن روسيا ترتجل قصتها السورية وتراكم كل يوم برشاقة وبراغماتية قواعد استقرارها طويل الأجل في المنطقة. تعرف موسكو درجة النفاق والخبث التي تربط علاقة تركيا بإيران، في ما قد يستدعي البعض تناقض النوستالجيات العثمانية والصفوية القديمة في المنطقة، وما يستدرج بعض آخر هذا التصادم السني الشيعي هذه الأيام. وفيما تختار الولايات المتحدة مواقع غير ودودة مواجهة لأنقرة وطهران، تتقن روسيا ببراعة وبرودة تشبه صقيع مناخها فن التحالف والصداقة مع تركيا وإيران. تعرف روسيا أن السياسة هي بالنهاية فن إدارة المصالح وتدرك أن المصالح فقط هي التي تدفع الإيرانيين والأتراك، وربما لأجل محدود فقط، للتحالف مع الروس والاتساق مع أجندة بوتين في العالم. يطل سيد الكرملين من النافذة السورية ساعيا ليكون سيّد المصير السوري وطرفه الأول أمام العالم. يذهب الرجل مذهب ما ترومه إيران لجهة الدفاع عن النظام السوري وزعيمه، وهو أمر تعمل عليه روسيا بدقة في القول والعمل، لا بل إن استراتيجية الرئيس السوري تعتمد بشكل أساسي على ما تمتلكه إيران من قوة داخل النظام كما لدى الميليشيات الشيعية المستوردة من أصقاع الأرض لكي تحقق براً ما لا تريد التورط به إلا جوا في الوقت الراهن. تنقل موسكو حساب الخسائر إلى دمشق وطهران وتحتفظ بدفتر الأرباح تجول به على عواصم العالم الكبرى. ويذهب بوتين مذهب رجب طيب أردوغان في رد الخطر الكردي عن حدود تركيا. يتيح اتفاقٌ ما مقايضة مدينة الباب بمدينة حلب. تركيا تستقيل من معركة المدينة وتعمل على سحب مقاتلي المعارضة القريبين منها للاتّساق مع إيقاعات "درع الفرات" التي لا تهدد نظام الأسد في دمشق، ثم تتحوّل إلى وسيط تسعى للشراكة مع روسيا في احتفالات اسدال الستارة على "فصل حلب" من العرض الكبير المستمر. حتى إشعار آخر لم تعد سوريا صراعاً دوليا، هي بالأحرى صراعا إقليميا تنخرط فيه روسيا، إذا ما استعرنا زلة أوباما الشهيرة حين وصف روسيا بأنها دولة إقليمية كبرى. تبدو حركة العواصم سواء تلك التي تتجادل داخل قاعة مجلس الأمن أو تلك التي تصدر عنها مواقف الإدانة والاستنكار والمطالبة برحيل الأسد ضجيج مواكب لا يقدم في المسار السوري ولا يؤخر. وحدها مواقف موسكو وأنقرة وإيران هي التي تؤثر مباشرة على راهن الصراع كما مستقبله وهنا سيبدو الموقف الروسي حساسا يتطلب مرونة عالية لانجاح حال التعايش الصعب مع إيران وتركيا. للمراقب أن يلحظ أن التناقض جذري بين ما تتوسله موسكو في سوريا وما تسعي إليه كل من طهران وأنقرة. يكفي تأمل أن روسيا تنخرط داخل الحل العسكري بالتحالف مع إيران وتبرم صفقة الحلّ السلمي في حلب مع تركيا، وكأن في الأمر الأعراض الأولى لصنّاع التسوية السلمية في سوريا على حساب المتمسكين بالحلّ العسكري الكامل للمخاض السوري. ستقلق دمشق وطهران من فرض صفقة تبرم مع تركيا تصادر خياراتهما الحلبية، وستقلق العاصمتان أكثر من احتمال اصطدامهما مع خيارات موسكو المقبلة داخل دولتهم "المفيدة" في موسم تخلي تركيا عن أي أجندة في الوقت الراهن متعلق بمصير النظام ومصير زعيمه. قد يستغرب المراقب موافقة روسيا على الصفقة التركية وهي في الأصل مستوحاة من مشروع قرار استخدمت موسكو ضده حق النقض في مجلس الأمن. واضح أن موسكو تريد الانسلاخ عن سطوة المجتع الدولي ومؤسسته الأممية ولا تريد "الخضوع" لقرار توحي به إرادة غربية. وإذا ما يخيّل للمراقب أن تسليماً دوليا مدعّم بالترامبية يجري القبول بشروطه، فأن تلك الهيمنة الروسية في سوريا لا شك ذاهبة إلى صدام مع إيران تارة ومع تركيا تارة ثانية وربما مع الإثنين معاً مرة ثالثة. محمد قواص صحافي وكاتب سياسي
مشاركة :