شهداء الكنيسة البطرسية الدم ينزف والدمع يُذرَف والكنيسة تحترق، والشهداء يتساقطون والجرحى يتلوّون، واليتامى والأيامى يولولون والثكالى يصرخن. ماذا فعل هؤلاء الأبرياء ليلقوا هذا المصير المؤلم والمحزن والمخزي في الوقت ذاته لهؤلاء الذين ارتكبوا هذا الفعل الإجرامي، الذي تتبرأ منه البشرية جمعاء والأديان كافة، إلا أنهم في بيت من بيوت الله يتعبدون ويسجدون لخالقهم وخالقنا وخالق الكون كله. لقد كفلت كل الأديان حرية العقيدة، كما كفلتها كل الدساتير، ومنها دستور مصر الذي جرى الاستفتاء عليه في ربوع مصر، ووافق عليه المسلمون والأقباط معاً، ألم يقل رب كل العباد وخالقهم جميعاً: "لا إكراه في الدين"؟، ألم يقل عزّ وجل: "مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ"؟ (113- البقرة)، ألم يقل سبحانه: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ"؟ (69- المائدة)، ألم يقل سبحانه: "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ"؟ (82- المائدة). ياسر برهامي في قفص الاتهام شهداء ولو كره ياسر برهامي الذي خرج علينا بتصريح غريب للصحافة وعبر قنوات التواصل الاجتماعي ينفي عنهم الشهادة، ودمهم لم يجف بعد، والحزن يخيم على مصر كلها، وقد كان شهداء المسيحية الذين تساقطوا على أيدي الرومان وهم يدافعون عن عقيدتهم هم أول شهداء الإنسانية كلها، قدموا أرواحهم فداءً لهذه العقيدة، وفي عهد الإمبراطور السفاح أقلاديانوس، كانت دماؤهم تجري في مصر أنهاراً ومدراراً، حتى قيل إن في أخميم بمصر مقبرة جماعية، وإن هناك شارعاً فيها أطلق عليه "شارع الزن"، حيث تسمع فيه آهات وأنات الشهداء حتى الآن. وقد بدأت السنة القبطية عندهم بسنة الشهداء، كما بدأت السنة الهجرية في الإسلام بهجرة الرسول، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من مات دون مظلمته فهو شهيد"، ولم يخص المسلمين بالشهادة في هذا الحديث. إني أتهم ياسر برهامي بازدراء الأديان، بل أتهمه بالتحريض على قتل الأقباط وتهديد الوحدة الوطنية، وكلاهما جريمتان يعاقب عليهما القانون المصري، وأعتبر هذا المقال بلاغاً إلى النائب العام. لميس وموسى أيضاً في قفص الاتهام ولكن قفص الاتهام الذي تقف فيه لميس الحديدي وأحمد موسى هو قفص مختلف، المحكمة فيه هي محكمة الرأي العام، الذي يراقب ويتابع ما يجري في مصر بحسرة وألم، وهو يجترّ بمرارة مأساة تلو مأساة في كل يوم وفي كل ساعة، وغياب الرؤية الصحيحة لحل مشاكل الشعب ومواجهة التحديات، وانهيار الآمال العظيمة التي علقناها جميعاً على ثورة التصحيح في 30 يونيو 2013، فتحطمت تلك الآمال على صخرة الإرهاب وصخرة الفساد، وقد اجتمعتا، رغم اختلاف مشاريعهما وأهدافهما، على أمر واحد هو تحطيم إرادة الشعب المصري في دولته المدنية التي يسودها الحب والعدل والسلام الاجتماعي بين كل الأديان والمذاهب ومختلف التوجهات والأطياف والألوان والطبقات سعياً نحو مستقبل أفضل يبني فيه الجميع دولة يتمتع فيها كل فرد بحق الحياة، وتوفر للمواطنين جميعاً الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وتعيد للإنسان المصري كرامته. محاكمة الرأي العام لوسائل الإعلام كان قفص الاتهام الذي وقفت خلفه لميس الحديدي وأحمد موسى، في محكمة أخرى هي محكمة الرأي العام، بعد أن حالت سواعد الشباب الأقباط دون دخولهما الكنيسة البطرسية، لتغطية العمل الإجرامي الإرهابي المروع الذي استشهد فيه أكثر من عشرين قبطياً، فضلاً عن عدد كبير من الجرحى، كما حالت سواعد أخرى من هؤلاء الشباب دون الفتك بهما بعد أن تلقيا علقة ساخنة في الكنيسة البطرسية التي وقع فيها التفجير الإرهابي المروع. وهو تعبير صادق وأمين عن الغضب الشعبي الكامن في النفوس، من أغلب وسائل الإعلام، التي انحرفت عن مسؤولياتها في نقد ما تراه مستوجباً للنقد من أوضاع وممارسات وقرارات تهم الرأي العام، وفي التعبير عن أماني الشعب، والعناية ببحث مشاكله، ومحاربة الفساد الذي أصبح يزكم الأنوف برائحته الكريهة التي سرت واستشرت في البلاد، إلى الخداع والتضليل وقلب الحقائق، مع إظهار القدرة على الانتقاد، دون انتقاد حقيقي للأوضاع المخيبة للآمال. ويقول أستاذ الإعلام في جامعة القاهرة د. حسن عماد مكاوي تعليقاً على هذه العلقة إن المشهد فيها يمثل تعبيراً تلقائياً من مشاعر الناس تجاه الإعلام بصفة عامة، وخصوصاً هؤلاء الذين خرجوا عن المسار في الفترة الأخيرة. ويضيف: "هذه رسالة من الشارع بأن وقتهم انتهى وعليهم التنحي عن منابرهم، وهو استفتاء غير رسمي على هؤلاء النجوم، وعلى الفضائيات الخاصة، التي بدأت قواعدها الجماهيرية تتآكل"، ولكن لميس أعلنت، بصلف وكبرياء، أن هذا الاعتداء لن يفقدها ثقتها بنفسها ولن تهتز بسببه. الحرية هي الغاية الأسمى غير أن حرية الرأي وحق التعبير عنه تظلان، مع ذلك، هما غاية الإنسان وغاية المجتمع الإنساني، التي تعلو كل الغايات، وإن حق التعبير عن الرأي من خلال وسائل الإعلام المختلفة، هو حق من حقوق الإنسان، وكلٌّ من حرية الرأي وحق التعبير عنه، وإن كفلتهما الدساتير، إنما هما من الحقوق الطبيعية التي تسبق هذه الدساتير بل أصبحتا الآن تعلوان عليها. ولئن كان البعض قد أطلق على الصحافة، وهى إحدى وسائل الإعلام وأقدمها، أنها "سلطة"، وهي ليست كذلك بالمعنى الدستوري والقانوني، لأنها تمارس حقاً ولا تملك سلطة، إلا أنه يبدو لي أنها أصبحت كذلك بمعنى آخر، وهو معنى لغوي، من تسلطها مع باقي وسائل الإعلام، على الرأي العام في الدور الذي يفترض أن تقوم به في تكوينه، تنويراً لا تشهيراً، وتثقيفاً لا تضليلاً، وحماية لا خداعاً، وقد انحرفت عن كل ذلك غير مقدرة لمسؤوليتها في تعبيرها عن أماني الشعب بكل ألوانه وأطيافه وتوجهاته السياسية وعلى اختلاف مشاربه وعقائده، مع تعدد هذه الوسائل، وتعدد القنوات القضائية، والتي يمكن أن تختلف فيما بينها، ولكن في هذا الإطار للحرية المسؤولة. وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مشاركة :