عودة إلى حبس نقيب الصحفيين تناولت في المقالين المنشورين على هذه الصفحة تحت هذا العنوان يوم 4/12، الحكم الصادر بحبس نقيب الصحفيين والسكرتير العام للنقابة ورئيس لجنة الحريات بها لاتهامهم بإخفاء وإيواء صحفي وآخر، اعتصما بمقر النقابة احتجاجاً على قرار ضبط وإحضار صدر بحقهما، بسبب دعوتهما إلى التظاهر على شبكات التواصل الاجتماعي لمنع الحكومة المصرية من التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير. وقد ذكرْتُهم بكنيتهم، ولم أذكرهم بأسمائهم، فلم يسبق لي أن التقيت واحداً منهم، ولكنهم حازوا ثقة أغلبية الصحفيين في انتخابهم لمناصبهم المذكورة في نقابة يفترض أن تكون قلعة الحرية في التعبير عن الرأي، والاعتصام هو جزء من التعبير عن الرأي. استقلال القضاء حق الشرع والمواطن وكان ما كتبته انطلاقاً من أن احتجاز أو اعتقال أي صحفي أو كاتب أو مفكر في أي بقعة من بقاع الأرض يدوي في سمع العالم كله، ويصبح قضية كل إنسان... حتى ذلك الذي يقف في أقصى اليمين... أو يقف في أقصى اليسار، فإذا وقع الاحتجاز أو الاعتقال أو التوقيف أو الحبس بإجراء أو بحكم قضائي فقد ضيعت الحقوق والحريات باسم حمايتها. فلو أسدلنا الصمت على مثل هذه الإجراءات والأحكام بدعوى توقير القضاء وحماية استقلاله، لتحول هذا الاستقلال إلى غاية في ذاته، ولأصبح انعزالاً لا استقلالاً، وهو ليس ميزة أو حصانة للقاضي، بل إن هذا الاستقلال هو ميزة وحصانة للمواطن، أو كما يقول الفقه الإسلامي، هو حق الشرع. لماذا علانية الجلسات؟ وإجابتنا عن هذا السؤال أن الدستور قد كفل علانية الجلسات باعتبارها من الضمانات الأساسية للمحاكمة القانونية العادلة والمنصفة، وهي ضمانة لم تشرع عبثاً، وإنما شرعت لإخضاع هذه الأحكام لرقابة الرأي العام، وحتى في الأحوال التي تقرر فيها المحاكم عقد جلساتها سرية مراعاة للنظام العام والآداب العامة، فإن النطق بالحكم يكون وجوباً في جلسة علنية، ليخضع الحكم بدوره لرقابة الرأي العام، كما أن السلطة القضائية شأنها شأن أي سلطة أخرى لا يجوز أن تكون أعمالها بمنجاة من رقابة الأمة مصدر السلطات جميعاً. القضاء يصيب ويخطىء ولست مع من يخلعون على الأحكام القضائية قداسة ليست لها، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يتولى ولاية القضاء، إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بحق أخيه، فمن قضيت له بحق أخيه، فقد أقطعته جمرة من نار فلا يأخذها. هذا هو سيد الخلق، الذي لا ينطق عن الهوى إذا شرع للناس في أمور دينهم ودنياهم، يقول عن قضائه إنه يخطئ ويصيب، فلا يجوز أن نخلع على أحكام يصدرها قضاة من البشر عصمة لم يعصم النبي نفسه منها فنسدل ستار الصمت على الأحكام القضائية، أصابت أو أخطأت. تقدير الحكم بحبس الصحفيين وكنا قد تناولنا في مقال سابق بتاريخ 4/12، نفي انطباق النص- محل التجريم- على الواقعة المنسوبة إلى المتهمين، لانتفاء الركنين المادي والمعنوي في الأفعال المنسوبة إلى نقيب الصحفيين وزميليه، وأستكمل في هذا المقال تقدير الحكم من ناحية افتراضه مسؤولية المتهمين الجنائية، وتوقيعه أقصى عقوبة عليهم. افتراض المسؤولية الجنائية فكل ما أثبته الحكم من أدلة على إدانة المتهمين هو اعتصام الفارين في مقر النقابة مع علم المتهمين بذلك، وهو ما يعني افتراض مسؤوليتهم الجنائية عن اعتصام لم يكن لهم يد فيه بالمخالفة للمبدأ الدستوري القاضي بأن المسؤولية الجنائية شخصية، وهو مستمد من قول المولى عز وجل "ولا تزر وازرة أخرى"، فضلاً عن الدستور الذي يقرر أن العقوبة شخصية، وقد أخذت المحكمة الدستورية العليا في مصر بهذا النظر حين قضت بعدم دستورية النص على مسؤولية رئيس الحزب الجنائية عن الجرائم الصحفية التي تقع بواسطة جريدة الحزب، لأن هذه المسؤولية تقوم على أساس خطأ مفترض، وهو ما لا يجوز طبقاً للمبدأ الدستوري الذي يقرر شخصية العقوبة. التشدد في العقوبة كما كان توقيع الحكم لأقصى عقوبة، وهي الحبس سنتين على كل من نقيب الصحفيين وزميليه، مثار دهشة كبيرة وصدمة للكثيرين ممن كانوا يتوقعون من قضاء مصر الشامخ الحكم ببراءتهما، فلم يراع الحكم في توقيعه أشد عقوبة قررها القانون في جريمة الإخفاء والإيواء أن المعتصمين كانا محل اتهام، ولم يكن قد صدر حكم بإدانتهما، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، فقد فرّق المشرع في جريمة الإخفاء والإيواء في العقوبة المقررة لها بين ما إذا كان المتهم الفار قد فر من تنفيذ عقوبة محكوم بها عليه، أو من قرار صدر بضبطه وإحضاره للتحقيق معه، حيث تخّفف المشرع في عقاب من أخفاه في الحالة الأخيرة، وتشدد في عقوبته في الحالة الأولى، كما لم يعرض الحكم من قريب أو بعيد في أسبابه للأفعال المنسوبة إلى المعتصمين أو العقوبة المقررة لأفعالهم ليقتنص الحكم من روح القانون فكرة تفريد العقوبة لتتفاوت بحسب جسامة الفعل المنسوب إلى الفار، وشدة عقوبته، حيث يقضي القانون في الحالة التي تكون عقوبة فعل الفار الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة بعقاب من عاونه على الفرار بعقوبة الحبس دون أن يضع لها حداً أدنى أو أقصى، بما يستطيع معه القاضي أن ينزل بالعقوبة إلى الحبس مدة أربع وعشرين ساعة، وهو ما ينطبق كذلك عندما يكون الفار متهماً بعقوبة جريمتها الإعدام، أما في الأحوال الأخرى التي تقل عقوبة الفار عن هذه العقوبات الجسيمة، ولم يكن متهماً في جريمة عقوبتها الإعدام، فقد تخفف المشرع من عقوبة من أخفاه بأن نزل بها إلى أربعة وعشرين ساعة، بل وضع حداً أقصى هو ألا يحكم القاضي بأكثر من عقوبة الحبس سنتين، فوقع الحكم هذه العقوبة المشددة، رغم كل ذلك التفريد التشريعي للعقوبة، والظروف المخففة التالية. ظروف مخففة نص قانون العقوبات على أنه "لا جريمة إذا كان من أخفى أو ساعد على الإخفاء أو الفرار من وجه القضاء، الزوجين أو الأبوين أو الأولاد والأحفاد"، وذلك احتراماً للروابط العائلية التي تربطهم بالمتهم الفار، وترك للقاضي في تفريده للعقوبة، وهي حق أصيل له، أن يقدر الروابط الأخرى التي تربط المتهم بالإخفاء بالمتهم الفار، كأن يكونا ضمن تنظيم نقابي واحد، تجمع المنضمين إلى هذا التنظيم روابط قد لا تقل عن الروابط العائلية، ذلك أن الحكم لم يلتفت إلى ما قد يكون في قيام النقيب وزميليه بتوفير قاعة "بيكار" مكاناً لهذا الاعتصام، وهو الدليل الوحيد على إدانتهم، من دوافع إنسانية، أو رغبة من المتهمين بالإخفاء ألا يعرقل هذا الاعتصام حسن سير العمل بالنقابة، وأنه لم يكن في مقدورهم أصلاً وأساساً منع هذا الاعتصام. وهي كلها ظروف كانت توجب على القاضي استخدام الرخصة التي خولها له قانون العقوبات بإيقاف تنفيذ العقوبة، التي لا يمكن مع هذا الظروف أن يحكم فيها إلا بالغرامة أو الحبس مدة لا تزيد على سنة، أو النزول بالعقوبة – مع تنفيذها - إلى الحد الأدنى لها، وهو الحبس أربعاً وعشرين ساعة. والخلاصة أن الحكم لم يراع المبدأ الدستوري الذي وضعته المحكمة الدستورية العليا، بأن المتهمين لا تتجانس خصائص تكوينهم ولا تتحد بنيتهم، وأنه لا يجوز النظر اليهم على أنهم صورة واحدة تجمعهم لتصبهم في قالبها، وهو المبدأ الذي تناولناه تفصيلاً في مقالنا المنشور على هذه الصفحة في عدد الجريدة الصادر 11 الجاري. وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مشاركة :