استطراداً على شُح المعلومات المتواترة من «أراكان» المكلومة، بفعل قبضة الحكومة البورمية والمحكمة التي تمنع وسائل الإعلام من الوجود بمناطق المسلمين المضطهدين. وفي ظل هذا التعتيم المقصود، يتزايد القلق أكثر من ذي قبل على حال الإنسان هناك، وقسوة الحياة التي يعيشها وسط ثلة من آكلة لحوم البشر في ميانمار. فالأقلية المسلمة من الروهينغا تسام في هذه الأوقات أقسى أصناف العذاب، بعد أن خذلتها الحداثة المعاصرة، وأنظمتها الإنسانية لتصبح بين كماشة حقد ديني متجذر، ومخلب بوذي في الحشا، في مشهد يستمر فيه التطهير العرقي والنزوح القهري من الوطن منذ نصف قرن، ورغم أن الروهينغيين يغلب على أجسادهم الوَهَن وقلة الحيلة، فإنهم يتجرعون في صمت وجع الجروح، وينزفون دماً فوق أرض منسيّة يُذبح عليها الضحية بوحشية، ويُؤكل لحم الطفل المسلم ميتاً في طقوس بوذية أمر بها الرهبان أتباعهم. واستطراداً أيضاً على القصص المأساوية، والصور المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي من خلالها بدأ كثير من المسلمين حول العالم التعرف أكثر على مآسي إخوانهم في بورما. رغم قسوة الصور البشعة التي تدمي القلوب، فإن العالم المتقدم لا يزال يتراخى في هذا العصر أمام جرائم البوذيين، والإبادة العرقية التي يتعرض لها مسلمي ميانمار؛ إذ يغمض عين ويفتح الأخرى ليرى بها ثورة الرهبان البوذيين ضد حكم العسكر فيهرع للتنديد، والشجب ثم يتبعها بفرض العقوبات الاقتصادية التي ساعدت في إسقاط حكم العسكر، في الوقت الذي يروج فيه بأسلوب ممنهج عن الإسلاموفوبيا في العالم، ما انعكس ذلك سلباً على قضية الروهينغيين بالعيش في وطنهم آمنين، وكف اليد البوذية عن ممارسة المزيد من الأجرام تجاه كل ما هو مسلم هناك. ولعل الحدث المهم في ملف أزمة الروهينغيين خلال هذه الأيام، هو صوت رئيس الوزراء الماليزي نجيب عبد الرزاق الذي كان حادّ اللهجة، مستصرِخاً الأمة الإسلامية والمجتمع الدولي للوقوف صفاً واحداً، وبقوةٍ، في وجه مجرمي ميانمار، وإنقاذ الأقلية المسلمة هناك من جرائم الإبادة، موجهاً سؤاله لرئيسة الحكومة البورمية الحالية أونج سان سو تشي عن فائدة جائزة نوبل للسلام التي تحملها، وهي التي في بلدها لا تقف موقفاً إنسانياً تجاه الضعفاء والمضطهدين من المسلمين، ولا تبادر بجدية إلى التدخل ومنع الإبادة الجماعية ضد أقلية الروهينغا المسلمة. معاناة الروهينغيين: يتعرض المسلمون في "أراكان" للطرد الجماعي المتكرر خارج الوطن مثلما حصل عقب الانقلاب العسكري الفاشي، حيث طرد أكثر من 300.000 مسلم إلى بنغلاديش، وفي عام 1978م طُرد أكثر من 500.000؛ أي نصف مليون مسلم، الآن يعيشون في أوضاع قاسية جداً، مات منهم قرابة 40.000 من الشيوخ والنساء والأطفال حسب إحصائية وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. وبالطبع، حياتهم محاطة بالمشكلات مع البنغاليين الفقراء وسط موارد محدودة، وفقر بلا حدود، وكل هذا لا يعلم عنه المسلمون في العالم شيئاً، وإن علموا وقفوا مكتوفي الأيدي. وفي عام 1988م، تم طرد أكثر من 150.000 مسلم، بسبب بناء القرى النموذجية للبوذيين في محاولة للتغيير الديموغرافي. وأيضاً في عام 1991م، تم طرد قرابة 500.000؛ أي نصف مليون مسلم، وذلك عقب إلغاء نتائج الانتخابات العامة التي فازت فيها المعارضة بأغلبية ساحقة انتقاماً من المسلمين؛ لأنهم صوّتوا مع عامة أهل البلاد لصالح الحزب الوطني الديمقراطي (NLD) المعارض. ومن الإجراءات القاسية للنظام القائم كذلك، إلغاء حقّ المواطنة للمسلمين؛ حيث تم استبدال بطاقتهم الرسمية القديمة ببطاقات تفيد بأنهم ليسوا مواطنين، ومن يرفض فمصيره الموت في المعتقلات وتحت التعذيب أو الهروب خارج البلاد، وهو المطلوب أصلاً. كل ذلك يحدث، وصوت الضمير العالمي يكاد يكون غائباً عن المشهد بتاتاً، ويبتعد كثيراً كلما ارتفع نداء السلام وحقوق الإنسان، رغم أن هذا الصوت قريب جداً من سمع وبصر سفيرة السلام، والحائزة جائزة الضمير المرموقة أون سان سو تشي، وهي المرأة التي يحتفي بها الغرب كوجه ديمقراطي، يتحدث عنها في كل محفل عالمي، ومناسبة حقوقية عن نضالها من أجل الديمقراطية، وحرية الإنسان في بلادها بورما، حتى أوصلها حصاد الجوائز الكثيرة من مؤسسات الضمائر الحية إلى مكانة مرموقة دولياً، وحصانة أممية لإكمال مسيرتها السياسية داخل وطنها، ولتكوّن معارضة شرسة للنظام العسكري الذي حكم البلاد بالحديد والنار على مدى 45 عاماً. جاء تولى سو تشي لحزبها "من أجل الديمقراطية"، الذي يحكم البلاد منذ 6 أشهر، من خلفية تاريخية وسياسية كان الصراع فيها شاقاً وطويلاً مع الديكتاتورية العسكرية، احتفى بها شعبها؛ لكونها ابنة الجنرال سان سوكي الذي فاوض الاستعمار البريطاني على الاستقلال وهو يعد الأب المؤسس لبورما، وقد اغتيل من قِبل أعدائه عندما كانت سو تشي تبلغ عامين فقط. في الوقت الحاضر، هي الزعيمة القومية أو "أم ميانمار" كما يحلو لها أن تسمعه من البوذيين دون غيرهم؛ لأنها مثل غيرها من البوذيين تحمل بين أضلاعها قلباً صغيراً بصبغة بوذية قاسية رغم تذوقها من قبلُ ألوان الخوف، والحرمان في وطنها على مدى 20 عاماً مضت قضتها بين جدران منزل الإقامة الجبرية، بعيداً عن زوجها وأبنائها، سجينة أفكارها وأحلامها في وطنٍ رقعتُه على الأرض تكاد تكون مجهولة المكان والتاريخ، ويعيش فيه أقلية مسلمة مضطهدة تحت ظلال الديمقراطية والحرية، التي أوصلت سو تشي إلى سدة الحكم. تعمدت سو تشي في أثناء مسيرتها الانتخابية أن تبدو أكثر حرصاً على تحقيق مطالب شعبها، وأن تلتزم بمبادئ الحرية والديمقراطية العالمية، لكنها بعد الفوز تخلت عن حماية المسلمين، وكانت تميل كثيراً إلى جانب تحقيق رغبات رهبانية بوذا بالابتعاد عن مناطق الروهينغيين، وترك جنرالات الجيش يتولون إدارتها بالقمع والتنكيل، ولم تتحدث يوماً عن مساعدة الأقلية المسلمة إلا مرة واحدة في تصريح ذكرت فيه أنهم ليسوا أولويةً على جدول أعمال حكومتها، وهذا التصريح يعاكس تماماً الوعود الانتخابية التي كانت تصبُّ في الشعار الذي رفعته سو تشي "جميع المواطنين البورميين سوف يكونون محميِّين، بمجرد تشكيل الحكومة في 2016". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :