التحرر من قيود الفصحى

  • 12/20/2016
  • 00:00
  • 45
  • 0
  • 0
news-picture

في الثامن عشر من ديسمبر عام 1973 قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية لديها لتصبح إحدى اللغات الست للعمل في الأمم المتحدة وهي الإنجليزية، الفرنسية، الصينية، الروسية، والإسبانية بعد ضغوط من عدد من الدول العربية. وفي 2012 اعتمدت الأمم المتحدة هذا التاريخ (18 ديسمبر) يوما عالميا للغة العربية واحتفلت به وقتها للمرة الأولى، ثم قررت في العام اللاحق الهيئة الاستشارية للخطة الدولية لتنمية الثقافة العربية التابعة للأمم المتحدة اعتماد اللغة العربية عنصرا أساسيا في برامج عملها كل عام. في مطلع هذا الأسبوع احتفى العالم العربي، كما اليونيسكو، باليوم العالمي للغة العربية الذي جاء تحت شعار: "اللغة العربية والعلوم"، وصاحب ذلك اليوم فعاليات كثيرة محلية في الجامعات والمدارس والأندية الأدبية وحملات كبيرة عن اللغة العربية وأهميتها وتميزها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهي عادة تتكرر كل عام مع الاحتفالية باليوم العالمي للغة العربية وظاهرة لا تعدو كونها شكلية وصوتية مع أغلب فعالياتنا العالمية أو المحلية تنتهي بانتهاء الحدث. شعار هذا العام للاحتفاء بالعربية (اللغة العربية والعلوم) يُثير كثيرا من التساؤلات عن علاقة اللغة العربية بالعلوم وتطورها وانتشارها سلبا أو إيجابا، كما يستدعي العديد من الأسئلة التي سبق وأن طرحها البعض من المفكرين والكتاب وأثير حولها الجدل سواء عن علاقة اللغة بالهوية، أو علاقة اللغة بالعلوم البحتة ومنها على سبيل المثال الطب. ففي العالم العربي وحسب إحصائيات قديمة لا توجد سوى 5 كليات تدرس الطب باللغة العربية وتوجد أغلبها إن لم تكن جميعها في سورية، بينما تعتمد بقية الجامعات على تدريس تخصصاتها الطبية والعلمية باللغة الإنجليزية. وقد نادى كثير من المهتمين باللغة العربية إلى تعريب دراسة العلوم، وخرجت العديد من التوصيات المكررة وغير المفعلة التي تعاد صياغتها كل عام إثر أغلب المؤتمرات والفعاليات التي تعقد من أجل العناية باللغة العربية ومحاولة تعزيز مكانتها في العالم. رغم هذا تبقى اللغة الإنجليزية تتصدر اهتمام الباحثين عن العمل أو الدراسة من عامة الناس، ويصبح تعلمها وتعليمها ضرورة ملحة في الوقت الراهن، سواء بدافع شخصي للتقدم والتطور في الحياة ومواكبتها، أو كاشتراط ملزم لإكمال الدراسة أو التوظيف. تعريب العلوم لا يعد بالطبع حلا لتمكين اللغة العربية في البلدان العربية على الأقل، وذلك لسببين: الأول أنه لا يمكن إحلال اللغة العربية مكان اللغات الإنجليزية أو الألمانية أو اليابانية مثلا في ظل ندرة المراجع العربية العلمية، وضعف حركة الترجمة إلى اللغة العربية، والأهم قلة المراكز البحثية التي تعني بمختلف العلوم. ولا يتوقع من مجتمعات مستهلكة أن تصدر أبحاثا علمية بلغتها الأم وتنافس بها الريادة العلمية في جهات مختلفة من العالم. السبب الثاني لعدم صلاحية تعريب العلوم البحتة هو الإصرار على استخدام اللغة العربية الفصحى، وأعني بها هنا تلك التي تقوم على قواعد النحو والصرف الصارمة وأصول التراكيب اللغوية الدقيقة وسياقات المعاني الموحدة. وهي مع اجتياح العولمة للعالم العربي تصبح يوما بعد آخر ثقيلة على النفس واللسان لدى الأجيال الناشئة، وسببا لتأخرهم في مواكبة العلوم التطبيقية ما لم يكونوا ملمين بلغة أجنبية أخرى وبمهارة عالية، فضلا عن أن الإصرار على تدريس اللغة العربية بشكل مكثف، خاصة في نواحي النحو والصرف والبلاغة خلال السنوات التعليمية الأولى والتأسيسية للطلاب، تقلل من فرصة تكثيف دراسة المواد العلمية والبحثية التي يتطلبها العصر الحالي، وتعيق التقدم العلمي والنمو المعرفي وتطور الأبحاث في الوطن العربي إذا ما كانت شرطا ملحا للتحدث والكتابة. اللغة العربية الفصحى لغة نخبوية ولا يكاد يتقنها ويجيدها بمهنية إلا القليل من الفئات المتخصصة والمتعلمة، حتى أولئك ممن يهتمون بها من غير المختصين والمتذوقين لا يسلمون من اللحن في القول أو الخطأ في الكتابة بين فينة وأخرى، وهو ما تعده الفئات النخبوية المتعلمة والمثقفة عيبا وقصورا. إن التحرر من قيود اللغة العربية الفصحى عن طريق استخدام اللغة "المحكية" التي نتداولها في حياتنا العامة، وينشأ عليها الأطفال في منازلهم ويتحدث بها الكبار بشكل طبيعي وسيلة مهمة لتقديم اللغة العربية لغة منافسة للغات الأخرى في العلوم بالذات، وسينشأ عن تعدد اللهجات في اللغة العربية من الخليج حتى غرب إفريقيا الشمالية ثراء معرفي وعلمي وتنوع تنموي بسبب اختلاف "الهويات اللغوية" من منطقة لأخرى، ففي تعدد الهويات فرص كبيرة للتنمية. استخدام اللغة البيضاء ليس بالأمر المستحدث أو المبتكر فقط للغة العربية، فقد شهدت العصور الوسطى في أوروبا أو ما تعرف بعصور النهضة حركات مشابهة لمثل هذا المطلب من التحرر من قبضة الفصحى، وسببا في النهضة العلمية والاجتماعية التي نقلت أوروبا من عصور الظلام والاستهلاك إلى عصور المعرفة والإنتاج والتطور. وسأذكر هنا ثلاثة أمثلة مختصرة لثلاثة أشخاص لهم يد طولى في التحرر من اللغات الفصحى القديمة، المتمثلة في لغة الكنيسة المقدسة وصياغة القانون والحدود للساسة، وإبدالها بلغات محلية محكية من العامة تستخدم حتى الوقت الحالي في الحياة العامة لتلك الجهات وفي العلوم خاصة. المثال الأول هو الأديب الإيطالي الشهير دانتي إليغيري مؤلف "الكوميديا الإلهية" الشهيرة التي صاغها بلغة عامية ذات صبغة رومانية في قالب شعري، وباستخدامه للعامية استطاع الوصول لعدد كبير من القراء، وبالتالي انتشار شعبيته وشعبية اللغة الجديدة وقتها واستخدامها حتى اليوم في إيطاليا. المثال الثاني لأستاذ اللاهوت والقسيس مارتن لوثر الذي اعترض على صكوك الغفران التي فرضتها الكنيسة، وكانت مكتوبة بلغة لاتينية فصحى، وقدم اعتراضه هذا بتأليف عدة رسائل، أشهرها كتاب النبالة المسيحية والأمة الألمانية، وقد قام بتأليفها باللغة الألمانية المحكية التي تعرف حتى اليوم وتستخدم في مختلف العلوم والمعارف، وكان استخدامه للعامية في كتابة رسائله المعترضة على الكنيسة والمطالبة بالإصلاحات الفكرية سببا في انتشارها وتداولها بين العامة واتباعهم لها. المثال الثالث والأخير هو الأحدث نوعا ما وهو الفيلسوف الفرنسي شارل لودي سيكوندا المعروف باسم مونتيسكيو الشهير بوضع نظرية فصل السلطات الثلاث (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية) عن بعضها، والذي لن يتم إلا عن طريق نظام حكم جمهوري، ووضع هذه النظرية في كتابة روح القانون المكون من 31 جزءا، والذي منه استمدت أغلب الأنظمة العالمية كأميركا دساتيرها القائمة على تلك النظرية. مونتيسكيو قام مثل دانتي بالوصول للعامة من خلال مؤلفات باللغة المحكية نالت شعبيتها وشهرتها وكانت سببا في إنجاح الثورة الفرنسية. من هنا نلحظ أن استخدام اللغات المحكية والمتحررة من الفصحى وصرامتها التي تقويها بطابع القدسية والإعجاز سيسهم في تقدم العلوم وتطورها بطريقة أو بأخرى. إن الدعوات للحفاظ على الفصحى كسبب لاتحاد عربي يشبه كثيرا النزعة العروبية فترة الستينات، حيث لم تشهد البلاد العربية بعدها شتاتا كما شهدته منذ ذلك الوقت حتى الآن. ما نحتاجه كبلدان عربية أن نُحدث انتقالا نوعيا عن طريق المعرفة والعلم، وأن نحاول أن تكون لغتنا الأم المحكية الميسرة للوصول إلى الجميع والانتشار بين جميع الطبقات، ولنا في اليابان وفيتنام والدول الإسكندنافية مثال في تطور شعوبها وهم يستخدمون لغاتهم المحلية البيضاء.

مشاركة :