ركل ولطم وشدّ شعر ... مدرسة «إعلامية» شعبية للتعبير

  • 12/21/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

جرى العرف أن يتعرض السياسيون والحزبيون والمفكرون والكتاب لهجمات فجائية من جموع محتشدة غاضبة. فربما اتخذ هذا السياسي قراراً أضرّ بجموع الشعب، أو انخرط هذا الحزبي في حديث وجده بعضهم مهيناً أو عنصرياً أو بغيضاً. أو كتب المفكر الشهير أو تناول الكاتب الكبير قضية ما من زاوية يعارضونها ويتبنون عكسها. وحيث إن أدرينالين الحشود أقوى بمراحل من إندروفين الراحة والهدوء والتفكير السليم، فإن تكاتف صبية وشباب غاضبين لركل ولطم وشد شعر مذيعة يعارضون فكرها، تحول خلال عام 2016 إلى مدرسة شعبية للتعبير وطريقة همجية لوضع التصنيف البرامجي للإعلاميين. إعلاميون وإعلاميات، بخاصة أولئك الملقبين بـ «ملوك وملكات» الـ «توك شو»، تحولوا أو حُولوا من مذيعي برامج يناقشون الضيوف إلى أحزاب سياسية وأصحاب توجهات أيديولوجية وداعمين للدولة بكل قوة أو مناهضين لها بكل بأس. وبدلاً من أن يطرح المذيع قضية تهم الجميع أو يناقش ملفاً يمس حياة الملايين عارضاً كل وجهات النظر، حوّلته السنوات التي تلت «ثورة يناير» إلى مخلوق جديد. صارت جموع المذيعين والمذيعات أيقونات سياسية يرفعها فريق على الأعناق ويرشقها فريق آخر بالأحذية. وقد راجت خلال العام 2016 مظاهر إما اعتداء على مذيعين ومذيعات، وإما تهديدات موجهة إليهم، وإما شتائم مصوبة ضدهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وإما تعبيرات شعبية عادية تعكس مقداراً من انعدام الثقة أو تقلص الصدقية أو على الأقل تبخر وتبدد هالة الانبهار. انبهر المشاهدون بينما يتابعون حالات اعتداء وقعت مع نهاية العام تعرّض لها إعلاميون مشهورون توجهوا إلى موقع الكنيسة البطرسية بعد دقائق من الانفجار، في محاولة للحصول على سبق التغطية الخبرية من موقع الحدث، وفي أقوال أخرى لأنهم ضمير الوطن وعصب الضمير الذي يهرع لنقل آلام المواطن، وفي أقوال ثانية لأنهم اعتقدوا أنهم أيقونات يعشقها المواطنون ونماذج عليا يرحب بها المشاهدون أينما حلوا. لكن حلول مشهد مفجع حيث مذيعة مشهورة تكاد تقع مغشياً عليها وجموع من المتجمهرين يركلونها ويضربونها، طرح علامات استفهام. وبعيداً من صدمة تعدي رجال على امرأة، وفاجعة تعبير جماعي بالغضب على أفكار أحدهم أو توجهاته بأن يشبعونه «علقة» ساخنة، فإن الفجوة العميقة والهوة السحيقة اللتين ضربتا علاقة كانت حميمة بين المشاهد ومن يقبعون خلف الشاشة تستحقان تساؤلاً هو: لماذا فقد مشاهدون الثقة في قطاع عريض من الإعلاميين؟ الإعلاميات والإعلاميون الذين تسيطر برامجهم على ساعات الذروة المسائية بين الثامنة مساء وحتى ساعات الصباح الأولى يبلغ عددهم نحو 20 في مصر، ويعدون الأبرز والأشهر والأكثر تأثيراً، لكنّ قطاعاً عريضاً منهم تحول وصار أخيراً «الأكثر إثارة للغضب كذلك». أشخاص ممن وجدوا في المكان الذي شهد الاعتداء على إعلاميين مشهورين بعد تفجير الكنيسة البطرسية تحدثوا عن مشاعر غضب عارمة بين شباب من المسيحيين جعلتهم يرون في الإعلاميين الذين وجدوا هناك «طفيليات تغذي شهرتها على مآسي الغير». بعضهم الآخر أشار إلى تقصير رموز الإعلام في تأدية دورهم التوعوي الخاص بمواجهة رياح التطرف التي تضرب مصر فكرياً والتي بدت معالمها واضحة بعد «ثورة يناير». فريق ثالث خفّف من وطأة الاعتداء، وقال أن الجموع كانت غاضبة و «فشت غلها» في من قابلها من شخصيات عامة، سواء من الإعلاميين أو السياسيين. السياسة التي فرضت نفسها فرضاً على الجميع منذ «ثورة يناير» ألقت بظلال غير وارفة على العلاقة بين المشاهدين والإعلاميين خلال العام الماضي. الإجراءات الاقتصادية المؤلمة التي ضربت المصريين بدرجات متفاوتة، تبناها إعلاميون باعتبارها «شراً لا بد منه». وأفردوا ساعات برامجهم للتغني بجدوى هذه الإجراءات، وضرورة تنفيذها، وأهمية تحمل مغبتها مع وعود قاطعة بأن الدولة ستراقب وتسيطر وتتأكد من أن المواطنين ستتم حمايتهم والتجار سيتم تطويقهم، وهو ما لم يحدث. حديث المواطنين في الشوارع يصول ويجول في دوائر مفرغة عن هموم الحياة اليومية. مرجعيتهم «قالت لميس (الحديدي)» و «استضاف (وائل) الإبراشي» و «كشف عمرو (أديب)» و «طرح (يوسف) الحسيني» و «حذر (إبراهيم) عيسى» و «تحدث (جابر) القرموطي» و «تناول أسامة (كمال)» واستضافت لبنى (عسل)». صحيح إنها مرجعية بات يشوبها قليل من التشكيك، وبعض من عدم تصديق، وكثير من تسطيح، وأحياناً مقادير متفاوتة من الغيظ بحكم أن رواتب هؤلاء تقدر بموازنات دول، لكنهم يظلون مصدر الخبر ومنبت القدرة الشعبية على التحليل والتفسير. تفسر مشاهدة تصف نفسها بأنها «ألتراس» المذيعة أماني الخياط – والتي كثيراً ما تثير الجدل بين مؤيدين يرونها رمزاً للوطنية والدفاع عن الدولة والرئيس السيسي ومعارضين يعبترونها بوقاً للدولة ولا ترى سوى كراهية «الإخوان» والثوار- بأن «المشاهد المصري اعتبر جموع الإعلاميين في برامج الـ «توك شو» الأشهر حائط الصد الذي يحميهم من شرور الجماعات الدينية على اعتبار أن الحكم الديني هو غاية الشر ومنتهى التهديد، لكن ما إن نجح الرئيس السيسي في إنقاذ مصر والمصريين، حتى هدأ الخوف الكبير وعاد المشاهدون أدراجهم إلى سابق عهدهم من حب لهذا المذيع واستثقال دم ذاك، وتدشين صفحات داعمة لهذا ومهاجمة لذاك». هجوم عنيف تعرض له عدد من المذيعين المشهورين خلال العام من قطاع من المشاهدين. والسبب الأبرز كان لهجة فوقية ترجمها بعضهم بأنها شعور بالفوقية ورآها آخرون باعتبارها نقصاً حاداً للكياسة ودليلاً دامغاً على أن منهم من يعيش في بالون اصطناعي لا علاقة له بالواقع. فمن اتهامات موجهة لقطاع من المواطنين بأنهم لا يستحقون ما يحصلون عليه من دعم حكومي، إلى وصف لآخرين يحصلون على شقق تبنيها الدولة للفئات المحرومة لكنهم لا ينتقلون للعيش فيها بأن «خسارة فيهم المجهود والأموال» إلى تعميم لفئات بعينها بأنها تدعي وجود أزمات غذائية وأشهرها أزمة السكر، وغيرها من قوائم الاتهامات المرسلة التي دأب بعض الوجوه الشهيرة على توجيهها للمواطنين. المواطنون الذين هم المشاهدون الذين يصنعون نجومية هذا، ويَطْوون شهرة هذه، ويضمنون أرباحاً خيالية لهؤلاء ويسحبون السجادة من تحت أولئك حققوا نقلة هائلة خلال السنوات القليلة الماضية. فبعد عقود من افتقاد الثقة بين من هم خلف الشاشات ومن هم أمامها بسبب إخفاء متعمد للحقائق، أو تجميل مموه لمواطن القبح، أو تسطيح للمشكلات، أو تغييب للعقول، أو تجهيل للمعلومات، وجدت ملايين المشاهدين في شخصيات إعلامية بعينها في الأشهر التي سبقت ثورة يناير وتلتها من يضعون فيهم ثقتهم. سلموهم مقاليد الصدقية، وقدموا لهم قرابين المحبة، وجعلوا منهم رموزاً سياسية وأيقونات ثورية، لكن رياح الأحداث أتت بما لم يشتهيه طرفا اللعبة: المشاهد والإعلامي. فبين استقطاب مستمر لكل المصريين قائم على عوامل سياسية وأسباب أيديولوجية، وانجذاب واضح لقطاع من المذيعين للارتماء في أحضان النظام ما يضعهم في حرج يمنعهم من الانتقاد أو إفساح المجال للمعارضة، ومحاولة بعضهم الآخر اللحاق بالمرتمين دون جدوى، ما يدفعهم للتطبيل حيناً والتنديد حيناً عسى أولي الأمر ينتبهون لهم، وانغماس بعضهم في محاولات إقناع المشاهدين بأن الأوضاع الصعبة التي يعيشونها طبيعية وسهلة لكن باستخدام حجج واهية وتفسيرات غير منطقية، وتصور للغالبية من أصحاب الأسماء الكبيرة والبرامح المؤثرة إنهم صاروا أيقونات أبدية لا يهزها غضب المشاهدين ولا ينال منها اهتزاز الصدقية أو تحلل الشفافية، يمكن القول أن عام 2016 شهد تباعداً بين طرفي المعادلة التلفزيونية، واهتزازاً لقواعد الأيقونات الأبدية، وضرورة مراجعة لمعايير الثقة بين المشاهد والإعلامي.

مشاركة :