عندما غنّت فيروز أغنية «سنرجع يوماً إلى حيّنا ونغرق في دافئات المنى»، للشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد عام ١٩٥٥، كان الجرح الفلسطيني طرياً ومآساة التشرد الفلسطيني جاثمة على الصدور وفي خيام المخيمات التي انتشرت على أطراف مدن عربية عدة. لكن الأمل الذي عرفنا في ما بعد أنه كان سراباً، كان ما زال ينعش صدور أبناء الأمة المهزومة وبناتها بأن العودة مقبلة لا مفر، وأن الدولة الصهيونية الغاشمة التي قامت على التراب الفلسطيني ستنهزم لا محالة. فشعوب الأمة كانت قد تحررت من الاستعمار ومن الأنظمة التي خلفها. والأنظمة الانقلابية العسكرية الجديدة التي جاءت بدعوى التحرر وبناء القوة الذاتية واستعادة فلسطين، كانت في أوج خيلائها. فهي ستبني الوطن والجيش وتحرّر الأمة وتنشئ قواعد ثابتة للتعليم والتصنيع والتقدم الاقتصادي، ما سيؤدي بالضرورة إلى بزوغ الإنسان العربي الجديد المتحرّر والمتعلّم والقوي. على هذا الأساس، عندما نسمع أو نقرأ التتمة العاطفية لقصيدة رشيد، «سنرجع خبرني العندليب غداة التقينا على منحنى»، ندرك حجم الأمل وقوة العاطفة ودرجة الجهل والاستهتار الذي طبع علاقة الدول العربية بإسرائيل منذ ما قبل تأسيسها في فلسطين وحتى اليوم. فالعودة اليوم أضحت مستحيلة، بل ربما أضحى الأمل بشبه دويلة على ٢٧ في المئة من التراب الفلسطيني حلماً بعيد المنال. من هنا، عندما شاهدت صورة بثّها الإعلام أخيراً لحافلة مغبرة تحمل لاجئين من شرق حلب إلى بعض أماكن خارجها، وقد كتب في صورة عرضية وبالإصبع على زجاجها المترب «سنرجع يوماً»، استعدت في ذهني سلسلة آمال العودة المسفوحة التي طبعت التاريخ العربي بانكسار رتيب منذ بدء انحسار الخلافات الإسلامية في القرن الحادي عشر وحتى اليوم: صقلية، الأندلس، مالطة، قبرص، مدن المغرب الساحلية، الأهواز، لواء الاسكندرونة، فلسطين، قبل أن نصل إلى عصر الحضيض الحالي عندما يهجر عرب مواطنيهم تمهيداً لإعادة تغيير التركيبة السكانية، أو لمآرب أخرى كما حصل في لبنان خلال الحرب الأهلية وفي العراق خلال قمع صدام حسين، وكما يحصل اليوم وفي شكل أشنع وأشد وطأة في العراق وسورية. حلب طبعاً أصبحت رمزاً دامياً وموجعاً لهذا التهجير القسري، لكنّ مدناً أخرى مثل حمص والموصل والرقة وتلعفر وجوبر وداريا وغيرها، سبقتها وعاشت محنة تهجيرها وتفريغها من سكانها الأصليين من دون كبير ضوضاء أو اهتمام إعلامي عالمي. ومع أني لا أملك دليلاً على أن أياً من هذه الهجرات القسرية المعاصرة قد أنتجت قصائدها من نوع «سنرجع يوماً»، فإني أرجح ذلك، كما نعرف أن الهجرات القسرية الماضية قد أنتجت كلها آمالها بالعودة أدبياً وشعرياً وفنياً، ولم تتحقق العودة في أي منها للأسف. أصبح لدينا جنس أدبي متطور من النواح على الأرض المفقودة والحيوات المنتزعة من محيطها، لكن لا تاريخ استعادة لدينا بعد الطفرة الأولى في القرن السابع الميلادي، اللهم إلا ما حققه الأتراك المحاربون في القرون الوسطى في الأناضول والبلقان ووسط آسيا والهند. لكن صورة اليوم أكثر إيلاماً وأشد وقعاً. فلا - عودة اليوم محلية الأصل والأداء، صنعناها نحن، أو بالأحرى ما ظننا أنه «نحن» ككيان كامل متكامل لكي نستفيق على واقع أننا في الحقيقة «نحنوات» مختلفة ومتباينة بل متعادية. أدركنا اليوم، أن ما ظنناه دولاً وشعوباً ذات تاريخ وجغرافيا ولغة مشتركة ومصير واحد، ما هو حقيقة إلا مجموعات قبل - وطنية وضعتها الأقدار أو لعبة الأمم في إطار دولة واحدة، لكنها لم تتجاوز خلال أكثر من خمسين سنة من العيش المشترك هوياتها المغايرة والمختلفة والمتعادية، والقاتلة بالنتيجة. كل من هذه الشعوب الصغيرة والمتناحرة التي نبعت من أرض الرافدين والشام في السنوات العشرين الأخيرة، لم يولد اليوم. فهي قبعت ساكنة وتحت سطح أيديولوجية الدولة - الوطن إلى أن انهارت هذه الدولة - الوطن في العراق، أو ظهرت على حقيقتها القبلية والطائفية والمذهبية في سورية، وبدرجة أقل عنفاً في لبنان، طبعاً إضافة إلى إرهاصات قبلية ومذهبية بل وعبر - مذهبية عدة في بقايا فلسطين وفي غيرها من دول المنطقة العربية. ظهرنا كما كنا قبل الخلافة وقبل الإمبراطورية وقبل الاستعمار وقبل الدولة الحديثة التي صهرتنا كلنا غصباً عن أهوائنا في بوتقة وحدة إجبارية: شعوباً وقبائل لا تتعارف ولا تتحاب، بل ولا تتقي الله. بل ظهرنا أيضاً وقد أقامت كل قبيلة وطائفة منا لنفسها تاريخاً منفصلاً وجغرافية منفصلة، بل مقدساً منفصلاً، وصنعت من هذا الانفصال سرديات مظلوميات غارقة في التاريخ وفي العداوة وفي الكراهية. لم نفشل فقط في إقامة أمة عربية واحدة مع ما لها وما عليها كفكرة طهرانية شبه - فاشية أتت قبل أوانها، لكننا أيضاً عجزنا عن دعم بقاء أممنا الصغيرة، التي وإن كانت حقاً من إنشاء الشهوات الاستعمارية في بداية القرن العشرين، إلا أنها بدت كأن لها جذوراً في الأرض وفي الزمن، وعاشت لنحو ثلاثة أرباع القرن، وهي تطمح الى توسع وحدوي بدلاً من التفتت الإقليمي والمذهبي والمناطقي التي انتهت إليه. أهواء الانفصال والتشرذم والتقاتل الداخلي جعلت من أوطاننا خرابات لا حول لها ولا إرادة. أصبحت سورية والعراق ولبنان واليمن وليبيا في هذه المرحلة ملاعب إرادات داخلية وخارجية وكعكات مدماة تقبع ببلاهة بانتظار السكين الأخيرة التي ستقسمها بين الأطراف المتنازعة، دولية كانت أو عربية، وتعيد تشكيلها بما يتناسب ورغبات هذه الأطراف وشهوات لاعبيها الصغار الذين تقاتلوا مع مواطنيهم بمطلق الغباء لكي ينتهوا إلى الخراب والتفرق الذي انتهوا إليه ولا يبدو أن هناك أي مخطط لخروج منه على المدى القريب. لعلنا في مستقبل الأيام القريبة المقبلة سنغني «سنرجع يوماً» للنواح على مفقودين لا مفقود واحد: الأرض التي نشأنا وكبرنا فيها وفقدناها لمن كانوا جيراننا ومواطنينا ولسادتهم الجدد، والوطن الواحد أو فكرته التي يبدو أننا لم نمتلكها أبداً وأننا عشنا كل هذه السنين على وهم انتماء انهار عندما ظهرت تحت سطحه مكونات متنافرة لم تفلح الدول التي عشنا في ظلها وتحت تأثير دعايتها في صهرها معاً، على رغم كل التبجح والادعاء، بل ربما بسبب منه ومن الحقيقة المرة من أن دولنا وأوطاننا لم تكن حقاً دولاً وأطاناً بل مشاريع فاشلة لم تنتج سوى الحسرة والألم والنواح. * كاتب سوري وأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
مشاركة :