«العدالة اللينة» وساطة قضائية تخفف من اللجوء إلى المحاكم وتعقيداتها

  • 12/22/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تحتكم منطقة القبائل الأمازيغية لفضّ النزاعات بين أهالي القرى قبل وصولها إلى المحاكم، وبخلاف غيرها من مناطق الجزائر، إلى نظام عشائري تحكيمي فريد من نوعه يُسمّى «تاجماعت». وهو نظام يندرج ضمن آلية الوساطة القضائية الغائبة في ثقافة الجزائريين، ما يفسّر سر لجوئه المفرط إلى العدالة. ويتذكّر الجزائريون كيف كان اعتبار اللجوء إلى عدالة المحاكم «عيباً»، يتجاوز الكبار وأعيان المنطقة، بسبب النظام العائلي القائم على التسلسل العمري الذي لا يزال مثالاً تهتدي إليه جهات في البلاد ممثلة في «تاجماعت» أو نظام «الجماعة». وهو هيئة أهليّة تتشكّل من أعيان البلدات والقرى والأحياء الأمازيغية وعقلائها، كسلطة معنوية يخضع لها السكان، وتختص في فك الخصومات والخلافات العائلية، وحلّ المشكلات الاجتماعية بين الأسر. ومع غياب ثقافة نظام الجماعة لدى الجيل الجديد في مناطق أخرى من البلاد، وتزايد عدد القضايا في المحاكم 6 مرات خلال العقد الأخير، حتى تحّول التنازع في المجتمع الجزائري إلى ثقافة سائدة، اهتدت السلطات القضائية إلى فكرة ما يسمى بـ «العدالة اللينة» أو الوساطة القضائية التي لا تزال تبحث عن مكان ضمن خريطة العدالة الجزائرية مقارنة بما هو متداول في بلدان أخرى حيث أصبحت من أهم مزايا النشاط القضائي. وقد سنّت الجزائر قانوناً جديداً للإجراءات المدنية والإدارية في أيار (مايو) 2008 ينص في بعض مواده على استحداث «الوساطة القضائية»، لإيجاد حلول ودية بين المتخاصمين في المجالين المدني والإداري، يثنيهم عن اللجوء إلى المحاكم وتعقيداتها وطول أمدها. ويدافع وزير العدل السابق الطيب بلعيز عن الفكرة بقوله أن «الوساطة القضائية ليست نظاماً جديداً أو دخيلاً على المجتمع، بل هو مستمَد من تقاليده القائمة منذ فجر التاريخ على إصلاح ذات البين». وضرب مثلاً بنظام «تاجماعت» في منطقة القبائل وكذا الزوايا الصوفية ودور الإمام في الإصلاح بين الناس في مختلف مناطق الجزائر. لكن بعد مرور سنوات لم تعد الوساطة القضائية بصيغتها الحالية مجدية برأي المحامين وأهل القانون، نظراً لعدم تمكّنها من الحدّ من عدد القضايا المرفوعة في المحاكم. من هنا المطالبة بجعل الوساطة القضائية إجراء مستقلاً يسبق رفع الدعوى، لتكون أكثر إقبالاً، وأكثر فاعلية في تسوية النزاعات من دون اللجوء إلى القضاء. ويعترف علي بوخلخال، رئيس الجمعية الجزائرية للوساطة القضائية، بغياب ثقافة الوساطة في المجتمع الجزائري على رغم فاعليتها، مؤكّداً أهميتها في تخفيف الأعباء عن الجهاز القضائي بما يعادل على الأقل نسبة 60 في المئة من القضايا المطروحة على العدالة، لافتاً إلى أن الوساطة القضائية أثبتت فاعليتها في المجتمعات الغربية، وتحلّ عبرها 90 في المئة من النزاعات في الولايات المتحدة وكندا، في حين أنها ما زالت شبه منعدمة في الجزائر، حتى أن بعض المحاكم «لا تعرفها أصلاً». وتظهر الأرقام أن 95 في المئة من المتخاصمين يغيبون عندما تطرح الوساطة كحل لنزاعاتهم، ما يصعّب على القاضي تطبيق المادة 994 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية. وتنص المادة على أن القاضي ملزم بعرض الوساطة القضائية على الخصوم في مختلف الشؤون، باستثناء قضايا شؤون الأسرة والقضايا العمالية وكل ما من شأنه أن يمس بالنظام العام. وفي السياق عينه، كشف بوخلخال أن الجمعية الوطنية للوساطة القضائية في تطور وتوسّع، وأن 90 في المئة من أفرادها أئمة. ويعزو وسطاء قضائيون عدم إيجاد مكان مستقر لها في الخريطة القضائية إلى أطراف عدة منها المحامي، الذي يرفض على لسان موكله تعيين وسيط من جانب القاضي لأنه يرى فيه منافساً له ومهدداً لوجوده، وبالتالي قرر وأده في مهده، ففي حالة تصالح الخصوم، لا يجني المحامي أي أرباح. ويدافع المحامي نصر الدين سكواني عن مهنته عازياً السبب إلى المواطن والنظام القضائي الجزائري الذي ساهم في تراكم القضايا وتأخّر النظر فيها. وأضاف لـ «الحياة» أن اتباع بلاده النظام القضائي الأوروبي المتسم بثقل الإجراءات، حيث تعتمد هيئة المحكمة على الأدلة والبراهين، التي يأتي بها عناصر الضبطية والمحققون فقط، أو تلك التي يفتح وكيل الجمهورية تحقيقاً في شأنها، من طريق إذن بالتفتيش، بمعنى أن القاضي يختار وينتقي الأدلة التي تهديه إلى الحقيقة، رافضاً كل ما يأتي به المواطن من دلائل. وهو عكس ما يرتكز عليه النظام القضائي الأنغلوساكسوني الذي يستند إلى الأدلة التي يقدّمها المواطن من تلقاء نفسه لإثبات أقواله. وفي هذا الإطار، تثار تساؤلات حول الفرق بين الوسيط وما إذا كان طلب خدماته يُغني أطراف النزاع عن محام. ويقول قانونيون أن الأول محايد وغير منحاز لأي طرف، بينما يدافع الثاني عن أحد منهما. ويوجد فرق آخر يتعلّق بالأتعاب، فخدمات الوسيط يحددها القاضي ويدفعها المدعي والمُدعى عليه مناصفة، بناء على مذكّرة يُعدّها الوسيط. وللتقليل من التوجّه المفرط إلى العدالة، تُطالب مؤسسات المجتمع المدني بإحياء نظام «تاجماعت» الذي لا يزال يسهم في منطقة القبائل بفاعلية في تخفيف التجاوزات بين السكان والحفاظ على التضامن بينهم، واحترام روح الجماعة، حيث تُعتبر قراراتُه نافذة لا نقاش فيها ولا يسمح لأحد بتجاوزها أو الاستهتار بها، لأنها تعبِّر عن الإرادة الجماعية للسكان، ومن يتجرّأ على ذلك يلقى عقاباً شديداً يتمثّل في نبذه وهجره ومقاطعته رفقة زوجته وأطفاله، من طرف كل سكان القرية. وعلى اعتبار أن هذا النظام سنّ بقانون الوساطة القضائية، يدعو مراقبون إلى تحسيس المجتمع بأن ممارســـة الوساطة مـــفيدة له، لأنها تتيح مرونة في الإجراءات وتــضمن السرعة في حل النزاع، فضلاً عن أن الكلفة لن تكون باهظة.

مشاركة :