تحقيق: راندا جرجس يعانى بعض الناس اضطراب ما بعد الصدمة، عن طريق تعرضهم لحادث واحد أو عدة حوادث كارثية أو تهديدات استثنائية، وتظهر الأعراض النفسية والجسدية لاضطراب ما بعد الصدمة عادة في غضون نصف عام بعد الحادث، ما يؤدي إلى إصابة الشخص ببعض المتلازمات النفسية مثل اهتزاز ثقته بذاته والعالم من حوله، ما يشكل أحاسيس العجز لديه، والاحتفاظ بتفاصيل مؤلمة بداخله لا يستطيع البوح بها حتى لأقرب المقربين، الصحة والطب تناقش في هذا التحقيق المشكلات التي يمر بها من تعرضوا للصدمات وكيفية مساعدتهم على تجاوز هذه الحالة.. التفاصيل في السطور التالية: يقول الدكتور مازن حمودي استشاري الطب النفسي، إن هناك جروحاً لا يستطيع الآخرون رؤيتها ولا يستطع المجروح التحدث عنها، وكما هو معروف أن أحد أهم عوامل الشفاء من الجروح الخارجية هو قدرة وسهولة الإفصاح عنها وطلب المساعدة الطبية والاهتمام من قبل الأهل والمقربين فضلاً عن سهولة التحدث عنها حتى مع الغرباء، وعند الحديث عن هذه الجروح غير الظاهرة ولا المرئية فأولاً نوضح أن عدم الإفصاح والتحدث عنها حتى مع أقرب الناس يزيد من شدتها ويطيل من وقت ألمها، وخاصة إذا كان الجرح الخارجي يحتاج إلى ساعات أو أيام أو حتى شهور للشفاء، فالجروح غير الظاهرة تمتد لسنين وأحياناً تمتد سنين لكي تلتئم. علامات الإصابة ويوضح د.حمودي أن اضطراب ما بعد الصدمة والمعروف اختصاراً باللغة الإنجليزية (PTSD)، مرض يصيب 8 أشخاص من كل 100 شخص والنساء بصورة عامة أكثر عرضة له، وأن الأشخاص المعرضين للإصابة به بشكل عام تظهر عليهم علامات الاضطراب على كل من يشاهد صدمة أو يعايش تجربة قريبة من الموت (كادت أن تؤدي إلى الموت) مثل، الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات وما شابه، الحرب، الإرهاب، حوادث السير الشديدة والاعتداءات الجسدية مثل الاغتصاب، وأهم هذه الأعراض تكرار الأفكار أو الصور أو الشعور بالحادث وكأن الشخص يمر بالتجربة مرة أخرى، وهناك بعض الأعراض التي تشمل الخوف المستمر من احتمالية تكرار ما حدث ما يؤدي إلى بقاء المصاب بحالة الترقب المستمر وهي بذاتها تؤدي إلى الشعور بالتعب، الحزن، فقدان التركيز، الانعزال، والاكتئاب، ونرى أن المصاب بهذا الاضطراب يصبح منهكاً من كثرة الترقب والشعور باحتمالية تكرار الصدمة الأولى، وفي كثير من الأحيان يفقد المصاب الثقة بنفسه وبالآخرين ويصل فقدان الثقة أحياناً إلى التشكيك بالمعتقد الذي يعكس مدى شدة التجربة التي مر بها هذا الإنسان، وكثيراً ما يصف المريض هذه الحالة بـ شريط فيديو عن الصدمة يتكرر باستمرار، كما تكون رؤية الكوابيس المرتبطة بالصدمة أحد أهم الأعراض الأخرى لهذا الاضطراب، ولذلك على من يعايش هذه التجارب أو المصاب بهذا المرض أن يتجنب كل شيء يذكره بالصدمة، مثل تجنب الأماكن القريبة من الحادث، وتجنب مشاهدة الأخبار أو الأفلام التي ربما تحتوي على مشاهد عنف يتذكر من خلالها الشخص ما تعرض له في السابق. جروح داخلية أثبتت الدراسات الحديثة مع الاستعانة بأجهزة الرنين المغناطيسي أن المصابين بهذا المرض تحصل لديهم تغيرات في 3 أماكن في الدماغ والتي تفسر جميع الأعراض المذكورة، إذ إن المصابين بهذا المرض لديهم جروح عميقة يمكن لجهاز الرنين رؤيتها، وللأسف نرى المريض المصاب يخجل أو يستحي أو يتجنب حتى ذكر الحادثة، وطلب المساعدة، ويعود هذا لأسباب كثيرة وأهمها شدة الألم المصاحب للصدمة وصعوبة أو استحالة الحديث عنها في مجتمع قد يحكم عليه بالذنب، وهناك بعض الصدمات تضع المصاب في موضع المذنب ويتلقى لوماً من عائلته أو المجتمع الذي يحيط به مثل حوادث الاغتصاب، ومثال آخر أن المريض الذي يتعرض إلى اعتداء مسلح كاد أن يفقده حياته يتجنب الحديث عن أعراضه أمام الآخرين خوفاً من أن يحكم الناس عليه بالضعف خاصة إذا كان يشغل منصباً وظيفياً مهماً، ولذلك نكرر أن هناك جروحاً داخلية لا يستطيع الآخرون رؤيتها ولا يستطع المجروح التحدث عنها وهذا ما يزيد من ألم المصاب ويطيل من أمده. مبادرات علاجية يؤكد د. حمودي أن البدء بزيادة وعي أفراد المجتمع بهذا المرض وتفهمهم لأسبابه وأعراضه يساعد على تقليل معانات المصابين به، خاصة وأن هناك علاجات نفسية دوائية وغير دوائية أثبتت الدراسات فائدتها وأراحت وخففت الكثير عن المصابين باضطراب ما بعد الصدمة، وكذلك أظهرت الدراسات المستعينة بالرنين المغناطيسي تحسن واسترجاع الأجزاء الدماغية المتضررة (الجرح غير الظاهري) إلى حجمها ونشاطها الطبيعي أو ما يقارب ذلك. وهنا تقول المعالجة النفسية إيمان بوقفة: إننا جميعاً معرضون للمرور بتجارب صادمة ومخيفة في حياتنا، وبالرغم من أنها ربما تكون خارجة على سيطرتنا، ولكن يحدث أن نجد أنفسنا في حادث سيارة أو ضحية اعتداء جنسي أو حضور لحادث مروع، بالإضافة إلى الكوارث الطبيعية والحروب، وكُلها أمور تفوق قدرة الإنسان على التحمل ولا يملك أن يتحكم بها أو يسيطر عليها، كما يمكن أن يصبح بعض الأشخاص عرضة للصدمات النفسية بحُكم طبيعة عملهم كرجال شرطة أو في الحماية المدنية، فتعرضهم المستمر للمشاهد المخيفة الناتجة عن الحوادث يمكن أن يؤدي بهم إلى تطور متسارع لحالة اضطراب ما بعد الصدمة. وتستكمل: أغلب البشر لديهم جهاز دفاعي يساعدهم على التكيف مع الضغوط النفسية أياً كان نوعها، ويتمكن العديد منهم من التكيف مع الحادث الصادم وتقبله والاستمرار في حياتهم بشكل طبيعي ويبقى هذا الحادث كذكرى سيئة، بينما في الكثير من الحالات الأخرى تفشل آليات الدفاع والمواجهة في مساعدة الشخص على التكيف، وعند ذلك تظهر أعراض اضطراب ما بعد الصدمة والتي تعد مؤشرات إلى فشل عملية التكيف وضرورة توفير تدخل علاجي في أسرع وقت لما لحدة الأعراض من أثر بالغ في استقرار الشخص وتكيفه. أعراض جسدية وتوضح بوقفة أن اضطراب ما بعد الصدمة اضطراب يظهر لدى بعض الأشخاص بعد تعرضهم لحادث صادم أو مخيف أو خطر، ينتج عنه شعور بالخوف أثناء وبعد الحادث ما يؤدي إلى مجموعة من التغيرات الجسدية ومنها تسارع دقات القلب وبرودة الأطراف، والتعرق. وتقول: إن هذه الاستجابة الفسيولوجية البحتة تنتج بسبب استثارة الجهاز العصبي السمبثاوي لحشد الطاقة ومساعدة الجسم على التعامل مع الموقف الصادم إما عن طريق مواجهة الخطر أو الهروب منه، ولكن في بعض الحالات تستمر حالة الاستثارة لفترة طويلة، فتتسبب في ظهور أعراض حادة والتي يطلق عليها اسم استجابة الضغط الحادة وهي ردة فعل شديدة وسريعة (أقل من أربعة أسابيع)، تتمكن آليات الدفاع والمواجهة في بعض الحالات من مساعدة الشخص على التكيف مع الوضع، ولكن في بعض الحالات تستمر الأعراض إلى أكثر من أربعة أسابيع وهو ما يسمى اضطراب ما بعد الصدمة، سواء تعلق الأمر بـ استجابة الضغط الحادة أو اضطراب ما بعد الصدمة فإن الاختلاف بين الحالتين يكمن في الفترة الزمنية، وتبدأ الحالة باضطراب ضغط حاد وتتطور إلى اضطراب ما بعد الصدمة، وفي الحالتين يعاني الشخص المصاب خوفاً شديداً وهلعاً ومحاولة تجنب الأماكن والأشخاص المرتبطين بالحادث، أو يعاني كذلك استرجاع الحادث الصادم على شكل صور اقتحامية أو كوابيس. مؤشرات انفعالية عادة ما يكون استرجاع الكوابيس للتجربة الصادمة دقيقاً، وتظهر مؤشرات استرجاع الأحداث في هيئة الاستثارة الجسمية والانفعالية الحادة التي قد يشعر الفرد خلالها بعدم قدرته على الحركة وعدم وعيه بما يحيط به في تلك اللحظة، وغالباً ما يستطيع مثير ما مهما كان بسيطاً أن يستثير عملية الاسترجاع هذه ليخوض الشخص التجربة وكأنها تحدث للمرة الأولى، ويعتبر الخوف من الموت أو الإصابة من المؤشرات القوية لأعراض اضطراب ما بعد الصدمة، وفي حالات كثيرة تستمر الأعراض وبشكل حاد لفترة تتراوح ما بين ستة أشهر إلى سنة، وفي بعض الحالات ينجح الشخص في التأقلم أثناء الصدمة ولا يُظهر أياً من الأعراض، من خلال تجنبه الحديث عن الموضوع الصادم نهائياً لفترة طويلة وتتسم تصرفاته بالهدوء وغياب الأعراض، ولكن بعد فترة تبدأ الأعراض في الظهور بشكل قوي وكأنه يعيش الصدمة للمرة الأولى. في بعض الحالات يصاحب حالة اضطراب ما بعد الصدمة حالة اكتئاب شديد ويمكن أيضاً أن يتطور الأمر إلى حالة ذهانية. الرعاية النفسية والطبية تؤكد بوقفة أن ردود الفعل الناتجة عن الحادث الصادم تختلف من شخص إلى آخر، كما يصعب التنبؤ بنوعية الاستجابة في هذه الوضعيات لأنها تحدث نتيجة لمجموعة من العوامل المترابطة والمتشابكة كالتكوين وآليات الدفاع والقدرة على المواجهة والتكيف وغيرها، وبالتالي سواء كانت الاستجابة فورية حادة أو تدريجية أو ظهرت بعد مرور فترة من حدوث الصدمة فإنه لابد من التدخل الفوري والعاجل لمساعدة المصاب على تقبل ما حصل (أي في غضون 24 ساعة)، وهنا تعد عملية التفريغ والحديث عما حصل والتعبير عن مشاعر الخوف والقلق عاملاً مساعداً للتقبل والتكيف مع الوضع، ولكن بعد انقضاء 24 ساعة يحول الشخص المصاب للعلاج النفسي، ولا يؤثر اضطراب ما بعد الصدمة في الشخص المصاب وسلامته النفسية فقط بل يؤثر في كل المحيطين به في محيط العمل والأسرة والأصدقاء، بسبب ظهور تغيرات في طبيعة الشخص المصاب وهو أمر غير معتاد من قبل المحيطين به، وبالتالي فإن زيادة الوعي ودعم المصاب بتوفير الرعاية النفسية والطبية لمساعدته لممارسة حياته بشكل طبيعي أمر ضروري. مضاعفات خطرة أثبتت الإحصائيات أن اضطراب ما بعد الصدمة يصيب حوالي 8% ممن تعرضوا للصدمات في حياتهم، وربما يرتفع إلى 50% عند الذين تعرضوا لحوادث صادمة عند الفئات المؤهلة مثل العمال الذين يعملون في مجالات الإنقاذ والأطباء ورجال الشرطة أو الجنود، ووفقاً لدراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا في 2011م، تصاب النساء اللواتي يعانين اضطرابات ما بعد الصدمة بنسبة أكبر، بالتهابات مزمنة، يمكن أن تؤدي إلى الإصابة بأمراض القلب وغيرها من الأمراض المزمنة التي تقصر العمر.
مشاركة :