لم تثنها سنوات عمرها التي جاوزت الستين عاما، عن مواصلة المحاولة مرة تلو الأخرى، لتحويل حياة الناس الى شكل أجمل، وصورة أفضل، في مبادرة منها لإعادة الحياة لما دمرته يد البطش والعدوان. الفنانة الهولندية مورجان تيوين، استطاعت وبعد عمل دام ما يقارب الثلاثة أشهر، من تحويل ما تبقى من رُكام منزل المواطن الفلسطيني أبو أحمد شعت الذي تعرض للتدمير بشكل شبه كُلي، جراء القصف الإسرائيلي، خلال عدوان العام 2014 بمحافظة خان يونس جنوبي قطاع غزة، الى لوحة فنية بلمسات جمالية بديعة، وبشكل هندسي وفني مُتقن، ضمن مشروع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني والمدعوم من الحكومة الهولندية. كثير من الابداع والعمل، المحاولة والصبر، التجربة والإصرار، تكللت مساعيها بالنجاح الذي لفت أنظار كل من راقبها على مدار شهور، فكانت النتائج التي خرجت بها مبهرة، مفرحة، ومميزة فنيا، كان هذا واضحا في عين المواطن شعت وأسرته. في المنزل الآيل للسقوط، كان العمل الشاق هو شغل تيوين، برغم سنها المتقدم، كانت تمضي جل يومها في الاجتهاد، واصلت ما بدأته رغم تحذيرات من إمكانية سقوط السقف المتهالك بفعل القصف الجوي، والذي أدى الى انهيار أجزاء كبيرة من المنزل. غير انه من وجهه نظر الفنانة لم يكن تهورا، فقد عمدت قبل بدء عملها الى إسناد المنزل من الداخل والخارج، بمساعدة عمال وحرفيين فلسطينيين، لديهم خبرة كبيرة في التعامل مع هذه المنازل شبه المدمرة، ومن ثم باشرت عملها في تثبيت كل منطقة تصل إليها، بقليل من الحذر استطاعت كسو الجدران بالركام والأخشاب، وصولا الى ترميم بعض الأجزاء بالإسمنت. لساعات طويلة وبشكل احترافي، عملت الفنانة الهولندية لرسم لوحتها الفنية السابعة على مستوى العالم، كان أربع منها في هولندا، وواحدة في شمال أفريقيا وأخرى في روسيا، والأولى على مستوى الوطن العربي، مستخدمه كل ما طالته أيديها من مواد أولية، من ركام وأخشاب وحديد من مخلفات المنزل المدمر نفسه، لتبعث الحياة من جديد في وريد البيت الحزين. •بديل ناجح عامان وأكثر وشعت ينتظر وعود إعادة اعمار منزله المدمر، دون جدوى، فكانت فرصة ترميمه بهذا الشكل هي الأقرب لتنفيذها، غامر بموافقته على عمل الفنانة التي لم ير من أعمالها شيئا، ولكن صعوبة الوضع الذي يعيشه مع عائلته في منزل بالإيجار، وابتعاده عن منزله, المنزل غير الصالح للسكن، دفعه الى التجربة التي أنتجت عملا فنيا جعل من بيته المتهالك مزارا لعدسات المصورين والمهتمين من كل مكان في محافظات القطاع. استخدمت الفنانة الهولندية جميع قطع المنزل المُدمرة، وحول هذا تقول: كان أهم جزء في العمل هو إسناد البناء، باستخدام جسور حديدية كبيرة وباهظة الثمن لإحكام جدران وسقف المنزل وتدعيمه خشية من تعرضه للانهيار المفاجئ، ومن ثم جاء دور إسناد أعمدة المنزل كونها الأساس الذي يقوم عليه البناء، ولأن البيت متضرر بشكل كبير، كان لا بد من الاهتمام بهذا الجزء، والتركيز عليه باستخدام الاسمنت والخشب، لإغلاق الثغرات. وتتابع وصف عملها بالقول: كانت المرحلة التالية بعد التأكد من ترميم الأعمدة هو تزيينها باستخدام بلاط المنزل وأي ركام للمنزل صالح للاستخدام، وآخر علمنا على تزيينه بالجبس، وقمنا بوضعها على هذه الأعمدة لتظهر شكلا منقوشا بعناية عبر رؤية فنية نالت إعجاب الجميع، بأشكال مغايرة للتك التقليدية التي يعرفها السكان المحليون. من ثم عملنا على معالجة الآثار المتضررة للأرضيات باستخدام البلاط والجرانيت المهشم في زخرفة الأرضيات المتصدعة، ورافق كل هذا عمليات تنظيف كبيرة في نقل كل الركام غير المستخدم الى منطقة بعيدة لتبرز المساحات الكبيرة في المكان، ويبدو العمل الفني أكثر وضوحا. تغير شكل المنزل بالكامل، والنتيجة غرف مفتوحة قبالة صالة واسعة محاطة بأعمدة حجرية ورخامية داخل المنزل، حتى ان من اعتاد على رؤيته في طريقه لم يعد يتعرف عليه بعدما تحول الى لوحة تشكيلة كبيرة، زينت المكان المحيط بالمنزل بالكامل. بات البيت اليوم نظيفا من كل آثار الركام التي كانت تغطي جنباته، واختلف شكله تماما، لكن شعت لا يزال يعلم ان هذه اللوحة الفنية لا تغنيه عن منزل جديد يعيد إليه دفء حياته التي فقدها جراء فقدان منزله. •رسالة إنسانية وعن الدافع للعمل ككل، تقول تيوين: كفنانة لا أستطيع رؤية العالم إلا وفقا لنظرة الفنان مرهف الحس، وعندما زرت غزة أثرت بي كثيرا مشاهد الدمار والخراب في كل مكان، وبعد تفكير فيما يمكن ان أقدمه لم أجد سوى استخدام مهارتي الفنية لإحداث تغير ولو بسيط في هذا المشهد البائس. تيوين التي عملت سابقا في منازل وأبنية بصدد الهدم بفعل الزمن والقدم لإقامة معارض فنية موقنة فيها، كانت هذه تجربتها الأولى للعمل في الأبنية المُدمرة بفعل الحرب، ورغم الصعوبات الكبيرة ورفض شركات التأمين وضع تأمين على حياتها والفريق العامل إلا أنها بمزيد من العزيمة واصلت عملها حتى خرج الى النور بحلة بهية وجميلة، عاكسا صورة جمالية متكاملة. وتضيف: الحرب لعنة الزمان، فهي التي تحول كل بناء الى خراب، وتغيب كل جمال لصالح البشاعة، ودور الفنان هو إزالة الغبار عن وجه المدينة لتبدو بشكلها الحقيقي، وتعكس جمال أبنائها وأهلها، في مقاربة بين التدمير والبناء، والربط بين الفوضى والنظام، بين الوقوف والسقوط، وهذا ما فعلته فقط. تيوين وبعد نجاح تجربتها الأولى، أكدت أنها بصدد دراسة عمل فني آخر في القطاع قبل مغادرتها، وان النتيجة التي ظهرت في نهاية العمل والصدى الواسع الذي حققه شجعها للعمل مرة أخرى على بيت مدمر في منطقة أخرى من غزة. رسالة إنسانية سامية تحملها تيوين الى كل العالم، تتمنى من خلالها ان تنتهي الحروب، وينعم الجميع بالسلام، دون حروب، وعن رأيها بالشعب الفلسطيني تقول: هو شعب قادر على الحياة رغم الحصار والحرب فهو يحب الفن والجمال والحب والحياة، لا يعرف اليأس رغم كل المشاكل والمتاعب التي يواجهها. وبسعادة بالغة تتجول تيوين في المنزل الذي حولته من خراب آيل للسقوط الى لوحة فنية، لتهدي كل مجهودها وإنتاجها الفني الى الأطفال الصغار الذين لم يروا من هذه الدنيا سوى الدمار والخراب، على حد تعبيرها. •لست سياسية وأوضحت تويين ذلك بينما تعيد ترتيب القرميد في المنزل المُدمر، فقالت: " طوال حياتي أبحث عن إجابة لسؤال: لماذا يدمر الناس العالم؟ ولماذا يبني الناس العالم؟ وهنا في غزة لم أستطع أن أقترب أكثر من هذه القطبية. أنتم... الناس في غزة تبنون غزة ثم تسقط (عليها) القنابل مجددا. وهذا البيت مجرد مثال. يمكنكم أن تروا المكان الذي سقطت عليه القنبلة. لذلك لا أرغب في أن أدلي ببيان سياسي، لكني اخترت أن أتواجد في غزة لأنه هنا لا يمكنني أن أقترب من تلك القطبية، ذلك التناقض بين البناء والهدم. أهل غزة مثال رائع على كيفية البناء مجددا." وأضافت: "لست سياسية ولا أملك رسالة سياسية ولست صحفية ولكني فنانة، ولغة الفن ليست لغة الكلمات بل صناعة صورة، أريد أن أخبر فيها عن السلام والحرب الفوضى والنظام البناء والهدم". هذا وحثت الفنانة الهولندية المواطنين على ضرورة زيارة هذا المتحف، مؤكدة أن "الشعب الفلسطيني رغم الحصار والحرب يحب الفن والجمال والحياة، كما أنهم لا ييأسون رغم كل المشاكل والمتاعب التي يواجهونها في فلسطين". وكانت الفنانة الهولندية تقضي أكثر من 6 ساعات يوميا، داخل المنزل المُدمر، وتنقل بيدها الحجارة، وتُعطيها للعمال وتأمرها بوضعها بالشكل التي ترغب به، رغم كبر سنها. وتقول الفنانة: أعمل في المباني، التي يتم تدميرها، عبر تدخلي بها كفنانة. وتضيف إن "الحرب على غزة بمثابة لعنة، وأردت أن أحول تلك اللعنة لجمال، لنقل جانبًا من المعاناة التي يعيشها سكان غزة للعالم وأن من حقهم العيش بحرية وأمان".
مشاركة :