الحصاد العراقي المر بقلم: د. ماجد السامرائي

  • 12/27/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

اجتمعت إرادة الطامعين بالعراق على تحطيم روح المواطنة عند العراقيين وإشعارهم بالانكسار والذل والاستسلام من خلال الحاجة إلى أبسط الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية. العربد. ماجد السامرائي [نُشرفي2016/12/27، العدد: 10496، ص(8)] نحن في الأيام الأخيرة لسنة 2016 وقد مرت مناسبتا عيد سيد الأنبياء محمد (ص) والسيد المسيح عيسى عليه السلام. لم يوقد الناس في العراق الشموع ابتهاجا بتلك المناسبتين العظيمتين، لأن الحزن قد عصر القلوب والعقول لدرجة الذهول من هول الفاجعة التي تغطي البلاد منذ عام 2003 لدرجة غياب الأمل. وازدادت قسوة بعد احتلال داعش لثلث أرض العراق، وتضاعفت على الذين يقاومون داخل بيوتهم ولم يهاجروا. تهدم كل شيء في العراق وكل ما يرتبط بقيم الإنسان وتراثه الروحي، قام المتطرفون بتهديم الجوامع والحسينيات والكنائس ومراقد الأنبياء والأولياء التي ترمز إلى أن هذا البلد له معنى حضاري عميق يضاف إلى كل دلالات الثروة. سمعت قبل أيام حديثا لكاهن كنيسة مار يوسف ببغداد يعبر عن حزنه لأن هذه الكنيسة الكبيرة لا يحضر طقوسها هذه الأيام أكثر من عشرين مسيحيا بعد أن كانت في الثمانينات والتسعينات تحتضن أكثر من ألف ومئتي مسيحي، فقد اضطر غالبية مسيحيي العراق للهجرة. لقد تم تفجير كنيسة سيدة النجاة عام 2010 ببشاعة لا تقل عن تفجير المساجد. أحزان الحروب التي ألمت بالعراقيين قبل عام 2003 أصعبها حزنا وألما فصل الحرب مع إيران، بسبب ما فقده العراقيون والإيرانيون الآباء والأمهات والزوجات من مئات الألوف من الشباب الذين ضحوا بأرواحهم وفق تكليف حكومي دفاعا عن وطنهم العراقي أو الإيراني، في العراق كان قسم من المقاتلين متطوعين في ما سمي بالجيش الشعبي الذي تم حله بعد نهاية الحرب مع إيران، أما في إيران فقد استمرت الحالة بما سمي الحرس الثوري وكان الأطفال الإيرانيون يساقون إلى جبهات القتال تحت شعارات أيديولوجية معروفة، أما الجيش العراقي فكان منتسبوه يأتون وفق التجنيد الإلزامي، وكانت النسبة الغالبة من أولئك المنتسبين من مواطني الطائفة الشيعية وفق التوصيف الطائفي المقيت. وكانت هناك قوانين تعطي استحقاقات الرواتب لعوائل أولئك الضحايا، لكن تلك الاستحقاقات قد ألغيت بعد عام 2003. بعد مرور أكثر من سبع سنوات على الحرب وقبيل توقفها وصل الإحباط لدى العراقيين لدرجة أنهم فقدوا الأمل بنهايتها. وأتذكر أنني قلت لأحد زملائي وأصدقائي في تلك الأيام “لو انتهت هذه الحرب أتوقع أن يخرج بعض الرجال عراة في الشوارع ابتهاجا بنهايتها”، وبعد أن وافقت إيران على القرار الأممي بوقف الحرب في الثامن من أغسطس 1988 وكان العراق موافقا أيضاً بل منتظرا موافقة إيران، في ذلك اليوم البهيج خرج الناس إلى الشوارع غير مصدقين، والذي حصل أن مصورا محترفاً قد صور رجلاً خرج عاريا في شارع قناة الجيش ببغداد، فجاءني صديقي مستغربا، هل كانت تلك نبوءة. لم تكن كذلك لكن استمرار الحروب والقتال وفقدان البشر لا مبرر له حتى ولو غطي بشعارات الدفاع عن الأرض والوطن أو الدين أو المذهب. كان العراقيون ينتظرون، وفق الآمال الكاذبة للمحتل الأميركي، أن ينعموا بالأمن والسلام والرخاء، لكنهم فوجئوا بقسوة جنود الاحتلال ضد المدنيين، وحصلت المقاومة الوطنية المسلحة لا فقط من قبل الطائفة السنية مثلما سوّق في الإعلام الأميركي والطائفي، وإنما من أبناء الطائفة الشيعية أيضا. وتجدد شوط الأحزان ومكابدة الآلام فقد اكتظت سجون الاحتلال الأميركي التي أنشأها وسط وجنوب العراق بالكثير من الأبرياء. كشف تقرير البريطاني شيلكوت عن أكذوبة امتلاك أسلحة الدمار الشامل التي احتلت أميركا وبريطانيا العراق بموجبها، لكن هذه الإدانة القضائية التي اعترف بها رئيس الوزراء الأسبق توني بلير لم تؤدّ إلى مطالبات من قبل حكومة العراق بتعويضات مادية. استطاعت قيادة الاحتلال أن تخلط الأوراق وتضع الأحزاب الشيعية التي أنيط بها حكم العراق في الواجهة ضد ما أسموه بالعدو الجديد، أي العرب السنة، ولم تنتبه تلك الأحزاب، للأسف، في سكرة حفاظها على الحكم إلى تلك اللعبة الأميركية القذرة. وكانت الأدوار الإقليمية الأكثر خطورة في ما حصل ويحصل بين العراقيين من تهديم لوحدة القيم الاجتماعية التي تمتع بها العراقيون، وانفتحت أبواب الصراع المذهبي والديني والاجتماعي وكان العام 2006 أكثر الأيام بشاعة في الحرب الطائفية، وبدلا من أن تكون “الديمقراطية الأميركية” التي جلبها الاحتلال بداية لإقامة النظام المدني والعدالة الاجتماعية، يكون فيها النظام والدولة الجديدة راعيين للمواطنين وبناء روح الجماعة والسلم الأهلي، أصبحت تلك الديمقراطية مدخلا إلى القتل والفساد والطائفية؛ معدل الضحايا من المدنيين ما بين 3000 إلى 4000 شهريا منذ عام 2003 ولحد الآن. الانهيار الشامل في ميادين الاقتصاد كافة، حيث أصبح الفساد المالي عنوان الحكومات وأصبح العراق مصنفا في التربة 161 من 168 في قائمة الفساد وفق منظمة الشفافية العالمية. لقد هيمنت إمبراطورية الفساد على جميع مرافق الحكومة ومؤسسات القطاع الخاص، إلى درجة أن يتم إقصاء ومطاردة القضاة الشرفاء الذين يريدون الاقتصاص من تلك الإمبراطورية البشعة. فبلد ميزانيته السنوية 150 مليار دولار قبل ثلاث سنوات لم تتمكن حكومته من فض مشكلة الكهرباء أو بناء وخدمة المستشفيات والمدارس حيث انهارت جميع منظومات تلك الخدمات. أصبح العراق اليوم مقترضا من الدول وتضطر الحكومة إلى تسريح الموظفين تحت عنوان الإجازة الإجبارية لأربع سنوات، واستقطاع 15 بالمئة من الموظفين المستمرين بالعمل، لكي يتحول الملايين إلى جيش من العاطلين، يحاول رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي إظهار حسن نيته بالإصلاح لكنه لم يتمكن من تحقيق خطوة عملية من أجل ذلك، وحتى ذلك القرار التقشفي اليتيم بإقصاء نواب رئيسي الجمهورية والوزراء تم نقضه من سلطة القضاء العليا، كما أن شعار “من أين لك هذا” الذي يرفعه حاليا بقي حبرا على ورق. أصبح الآن قرابة أربعة ملايين نازح من ديارهم في المحافظات العربية السنية قبل وبعد احتلال داعش يعيشون أسوأ الحالات، ولم يتمكن أهل المدن التي تم تحريرها من داعش خلال العام الماضي والحالي من العودة إلى بيوتهم لأسباب أمنية مفروضة من قبل قوات الحشد الشعبي التي استوطنت تلك المدن. وتسجل اليوم مخيمات الإيواء لنازحي الموصل صورا فظيعة بانعدام ونقص الخدمات الأساسية للحياة. المرأة تتعرض إلى أقسى أنواع الاضطهاد والحرمان وهناك ما لا يقل عن مليوني أرملة عراقية يعشن أوضاعا سيئة ويتعرضن للاستغلال الجنسي بسبب ذلك، وهناك وقائع فظيعة لتعرض النساء تحت حكم داعش في الموصل للاغتصاب والإهانات، كما تفارق الحياة الآن يوميا أكثر من عشرين امرأة في الموصل بسبب نقص الأدوية والخدمات الطبية، إلى جانب أربعة ملايين طفل يتيم في عموم العراق في أسوأ حالات الحرمان الإنساني. الشباب العراقي يعيش ضياعا ما بين الخضوع لعمليات التثقيف المذهبي والغرق في طقوسه وبين العمل والإنتاج المحروم منه، وعلى من يريد الحصول عليه أن يمر بطرق ودهاليز الرشوة والابتزاز أو التطرف في موالاة الأحزاب ورجال الدين الجدد، والتفنن في أساليب الكذب والغش والابتزاز التي تصل حدود الإجرام الاجتماعي والاقتصادي، مما ولد جيلا ضائعا لا يؤمن بالعمل والإنتاج والإخلاص والصدق، بل هو جيل أفراده خائفون من المستقبل الغامض فيلجؤون إلى الهجرة المتجددة أو إلى الارتهان للمخدرات والسرقات لدرجة أصبحت بغداد تكساس ثانية في عصابات الإجرام والاختطاف وغيرها وسط غياب لأمن الدولة المركزية. لقد اجتمعت إرادة الطامعين بالعراق على تحطيم روح المواطنة عند العراقيين وإشعارهم بالانكسار والذل والاستسلام من خلال الحاجة إلى أبسط الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية بما يقود إلى التفكك الأسري. العراق يمر بفوضى انهيار الدولة، ولا يوجد أفق للأمل عند الناس، وإذا كانت الحكومة وأحزابها يتلقيان الآن الدعم الدولي الكبير بسبب الحرب على داعش فأي غطاء للدعم حين تنتهي قصة داعش في العراق ونتمنى أن يتم ذلك عام 2017 وقبل الانتخابات النيابية المقبلة، في وقت يتوقع فيه تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك الأمنية. أي حصاد قدمته الأحزاب الحاكمة لهذا الشعب الصابر، إنه الحصاد المر. كاتب عراقي د. ماجد السامرائي :: مقالات أخرى لـ د. ماجد السامرائي الحصاد العراقي المر, 2016/12/27 زعامة الشارع الشيعي في العراق لمن؟, 2016/12/20 سياسة الأمر الواقع لا تقيم عدلا ولا تبني أوطانا, 2016/12/13 الموصل وحلب.. مقاومة التطرف والطائفية, 2016/12/06 العراقيون ليسوا بحاجة إلى تسوية تاريخية, 2016/11/29 أرشيف الكاتب

مشاركة :