جدلية الفن والواقع في "الورد والرماد"

  • 12/28/2016
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

"الواقع هو إطار مرجعي للتمثلات الجمعية حسب ديركايم وهي خارجة عن وعي الأفراد ومستقلة عنهم، ولكن هذه التمثلات تتعرض للانزياح عن مقاصدها الايديولوجية والفن وسيلة من وسائل الرفض لهذه التمثلات الاجتماعية ونقدها ودحض أوهامها". فالواقع في الفن هو الخارج عن الذات. هو الإطار الخارجي الذي يضيف اليه المبدع إحساسه وخياله ولكن هذا لا يحتاج الى مهارة وصناعة فحسب بل انفتح الفن منذ القرن الثامن عشر على فن التصوير والفنون التخيلية. ولم تعد كلمة فن تعادل مهارة بل تصب في خانة الكشف عن حقيقة مغايرة للواقع عن طريق الفن بفضل الإحساس والتيقظ وقوة العمل بطريقة إبداعية تخلق قوانيها بعيدا عن الصناعة لهذا أضيفت لها مفردات مثل إبداعي وجمالي حسب كولردج وكاريل ورسكن وشيللي وغيرهم. ونظرا لمثالية نظرية الرومنطقية وعلم الجمال الجديد أضيف لها محتوى العلاقات الاجتماعية المادية دون التقليل من قيمة الإبداع الخيالي والعقلي. وقد بين جوركي أن الواقعية هي استخراج فكرة الواقع الأساسية إضافة إلى هو مرغوب فيه عبر موقف رومنسي ثوري تجاه الواقع لتغييره عبر الفن. •الورد والرماد "الورد والرماد" لمحمد آيت ميهوب في طبعتها الثانية المتوفرة عندي صدرت سنة 1996، عن دار النشر للمغرب العربي في 163 صفحة، وشي غلافها بلوحة "الذاكرة" للرسام البلجيكي رينيه مارغاريت. وجاء الإهداء على النحو التالي: "إلى من علمني اللحن ولم ينشدني القصيدة"، فكان الإهداء عتبة مهمة للولوج الى الموسيقى التي يحملها المبدع بين دواخله، تضيء دواخل شخصياته القصصية تلك التي قال عنها شكسبير: "بإن الانسان الذي لا يملك موسيقى بين جوانحه روحه معتمة كالليل"، كما تحيلنا مباشرة إلى إحدى القصائد الرومنسية لجبران "وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود"، وقد وردت هذه القصيدة بصوت فيروز في قصة "طعم القصة ورائحة المطر"، إذ يقول السارد "صوت فيروز جميل دائما. كلما سمعها تغني، ظن انها تغني له. ولكن هل يمكن أن يجتمع فيه في هذه اللحظة كتابة القصة وإنشاد الأغاني؟ بدا له كأن الأغنية تسأله: هل اتخذت الغاب مثلي/ منزلا دون القصور". ص 110. •دلالة العنوان لم يتعر الورد من معانية ودلالاته الجمالية، ورائحته التي تعبق بالجمال الحسي، وقدرته على تجديد الحواس والروح، ولكن حين تتبعه مفردة الرماد التي تحيل إلى الموت مباشرة وبقايا ما هو محترق فهو يعبر عن الموت السريع وعن وجود عبثي فقد جماله ورائحته. فالمعطوف والمعطوف عليه في "الورد والرماد" يشتركان في دلالة التغير من الحياة الى الموت. وقد ارتبط الورد في الأساطير القديمة بالمرأة وفي خيال الأطفال أيضا الذين يهمون برسم ملامح امرأة في شكل وردة مع تجاربهم الأولى مع الرسم. وكثيرا ما نبتت الورود من دماء الإنسان كما انبعث طائر الفينق من رماده في الأساطير القديمة. وقد حمل عنوان المجموعة عنوان قصة "الورد والرماد" التي صورت قصة حب بين شاب وفتاة كانا يلتقيان في مقبرة النصارى في 1939، ثم القبض على الشاب أثناء الحرب العالمية الثانية وقدوم الألمان، واندثار تلك القصة التي كان الأطفال يتابعون تفاصيلها وصورها، ليرصد لحظة الانشطار بين العالم الروحي العاطفي إلى الانحدار إلى عالم سفلي متوتر تغيب عنه الحياة. لذلك مثل العنوان عتبة مهمة للولوج إلى قصص المجموعة، وايجاد الخيط الرابط بين أحداثها وعوالمها لأنه يجسد الرؤية التي انبنت عليها النصوص. •عناوين القصص رمزية يحضر الرمز خاصة في عناوين قصص المجموعة مثل "رجال بلا شمس" يذكرنا بـ "رجال وفئران" لشتاين باك، يتحول فيها الرجال إلى فئران في المصيدة أو بين قضبان السجن، في "القارب والريح" ثمة حركة مقاومة ايقاع الحياة العنيف، في "مدن بلا أساطير" يتولى السارد كتابة الأسطورة الغائبة ويعطيها بعدا جماليا عبر قصة عروس البحر التي ظهرت واختفت في مدينة بنزرت المنفتحة على البحر شمالا، وفي "أسرار المعلمة" فهو يغوص بنا إلى أسرار خفية لأعماق النفس الإنسانية، "الأزرق والأسود" فهي رؤى الأفق والانفتاح منغمسة في الذات المظلمة لتفرز لنا عالما متداخلا هجينا في مقبرة الموت، ولكنه يرسم أفقا بعيدا ودائما ولا يكسر. في "طعم القصة ورائحة المطر" يلعب على العلاقة الحسية في إذكاء التصور القصصي، أما في قصة "الأنفاق" فهي أنفاق داخلية للذات تتمظهر على شكل مقاطع من حكايات يلعب فيها الخيال لعبته. في"الرسائل تصلنا دائما" تشير إلى رسائل أخرى أقرب إلى عالم النقاء والبوح وقدرة الخيال على استدراج الغائب "في ذلك الوقت كنت شابا تستهويني الغيبة وألحان الشرود، وكان نومي حيا تغازلني فيه أحلام وأسفار. فما إن يداعب الكرى أجفاني، حتى أحلق وأرحل بعيدا بعيدا" ص 30. •سرد الخيال يميل محمد آيت ميهوب في سرده لقصصه إلى إيجاد عالم مواز للواقع هو الخيال، وهو الذي تتمثله الشخصية في تعايشها مع الواقع لتكتب قصتها كما تمثلت لها، فهي تعود إلى الأدراج السرية التي تخبئ فيها حكايتها الحميمية وإلى أحلامها ولكنها تواجه بها الآخرين في الواقع. وغالبا ما تربط هذه القصص بين خيالات الشخصيات الذكورية بالمرأة، سواء كانت حقيقة أو وهما أو موضوع لوحة فنية، ولكنه لا ينتقل بنا إلى عوالم أسطورية أو سحرية غريبة عن الواقع بل هي جزء من الواقع ذاته، أو ما تضيفه الذات للواقع لتقاوم مواطن الموت والجمود. ويبدو سرد الخيال في "الورد والرماد" قريبا إلى التصور الباشلاري، وتجسيم لعالم داخلي ممتلئ بالجمال المنشود، عالم منعزل منخلع عن واقع موتر، فنحن إزاء "حلم اليقظة الكوني"، يحتضن فيه الإنسان ذاته، فتبرز شخصية "عم الصادق" حارس السكة الذي يملك بنية شاب وذاكرة شيخ، بين عمله وبين غرفة بسيطة هي غرفة الحراسة وبين صمته ينتظر امرأة من المدينة وبين ما يشاع عنه من هوس يعكس حالة من إيقاع التوتر والانتظار لشيء قد يسافر مع رحلات القطار وقد لا يعود، لقد خلقت شخصية "عم الصادق" قصتها ونسجتها وهي انتظار رسالة من نعيمة تلك المسافرة التي حطت في غرفته منذ ثلاثين عاما، ووعدته بإرسال رسالة والزواج منها. ويموت العم صادق، وبعد موته تصله رسالة من نعيمة، ليتبين أنها كتبت بخط يده. فالخيال هنا يخترق سلطة بيئة قروية تقمع هذا الجانب العاطفي وتصفه بالمس والجنون وهو حب له تجلياته وصوره في الخيال وتصوير المرأة المشتهاة. وتبقى المرأة ملهمة خيالات الرجل منذ طفولته إلى شيخوخته، فهي في الواقع قريبة منه وليست مجرد عالم عجائبي تسرده الأساطير والخرافات، ولكنه يراه في خياله في صورة أخرى غير نمطية، ويرسم لنا حواراته السرية معها، كما هو الأمر في قصة "تلك المرأة أولائك الرسامون" فالمرأة التي ربط معها الراوي علاقة إحيائية لمدة عشرين عاما تقوم على الحلم والتخيل وعلى محاولة ولوج عوالمها، هي من أخرجها أخوه من إطار الصورة وقام بقصها لإعادة تركيبها، فكانت تلك العملية فعل قتل كما وصفه الراوي، لتبقى المرأة موضوع رسم متجدد احتفت بها أغلب لوحات الرسم فداعبت خيال المتلقي منذ طفولته، وما زالت تثير رغبته في تشكيلها من جديد. في "تلك المراة أولئك الرسامين"، يوهمنا أنها تحولت الى جثة فإذا بها صورة في لوحة قصها الأخ، إنها صورة في إطار للقص وإعادة التركيب والرسم. ويعبر الكاتب من خلال شخصياته الذكورية عن الحب لهذا الكائن الذي يستمد جماله المتكامل في الروح والجسد والفكرة وفي رؤيا غائمة وفي محطة تنتظر المسافرين دائما، وتحضر الكثير من الصور عن العلاقات الطفولية البريئة في جل القصص ولكن هناك امرأة في صورة نساء تداعب خيال السارد وخيال شخصياته القصصية، لا تبرز في صورة حسية واحدة بل في صور جمالية متعددة. "لقد رأيت طيلة حياتي الكثير من العيون الزرقاء الجميلة لكنني لم اصافح عينين في ذلك البهاء. تكامل فيهما جلاء البياض بحدة اللون الأزرق كسماء أصيل ربيعي وقد زادتهما تلك النظرة الثابتة حدة وقسوة تربكان عيون الآخرين..". فالمرأة التي تداعب خياله وتحمله في أحلامه إلى الشاطئ أو شجرة الزيتون أو إلى الغاب هي الرمز المتكامل. وتبقى المرأة ملهمة رواة قصص آيت ميهوب، المرأة التي يوهمنا دائما أنها حلم أو وهم أو كائن سيبقى وحيدا أو سيتعرض للأذى وتثير الخيال وتداعب الأحلام. وسرد الخيال كما اتضح في قصص "الورد والرماد" ينكتب من خلال لغة احيائية حافلة بالتشخيص والتحويل والتشبيه، ذلك أن السارد يدمج الشخوص الطبيعية في عملية القص ويجعلها من العناصر البنائية الفاعلة. •لغة أدبية حافلة بالتشخيص وبالتشابيه أثناء قراءة نصوص المجموعة القصصية "الورد والرماد" نباغت بأنسنة السارد للطبيعة وتشخيصها، مستعيرا أصواتها ليشبهها بالصوت السيكولوجي للإنسان، وخاصة عند تصوير مشهد المطر والريح في قصة "الرسائل تصلنا دائما"، ثم يقوم بتشبيهها بأصوات كائنات أخرى مثل عويل الريح الذي شبهه بعواء الذئب. وبكاء المطر الذي شبهه بفرح الانتقام أو السؤال الذي يجر إلى سؤال. "كانت ليلة شتاء كافرة، تذكرت فيها العجوز كل أيتامها فراحت تبكي بكاء غزيرا باردا ينهمر على أكواخنا كاندفاع السؤال أو فرح الانتقام. ولما سمعتها الريح، أخذت نايها واسترسلت تعوي بين الفجاج ودواميس الحفر كما الذئب يعوي أو كخطو صديق بلا صديق. وطال تجاوب الريح والمطر حتى خلناها القيامة أو هي نداء الطوفان". وعند التشبيه التمثيلي فهو يحذف أداة التشبيه فيمثل ويشخص ويستعير ليحول الإدراك الحسي الى تصوري مفعم بصور الذاكرة وأصواتها وانعكاسها في مرايا مختلفة، كما يستعمل التشبيه الإبداعي "كاندفاع السؤال"، "كخطو صديق بلا صديق" والتشبيه المباشر "أو فرح الانتقام"، "كما الذئب يعوي". وعلى النقيض من تصوير وجع الإنسان من وجع الطبيعة أثناء مخاض الولادة والانبعاث عبر المطر، فهو يصور عالما قصيا في الذات لفظته الكائنات التي احتضنته، بل انفصال المولود عن الرحم الذي آواه، وحين تشكل دعاه يرتسم ويتصور ويتجلى في هيئات أخرى، ويختبر أحاسيسه. "رقص وعزف ناي وتنهدات قطرة مطر تقاذفتها أوراق شجرة عجوز وابتسام لوحة اختفى رسامها عند الأصيل". وعمل محمد آيت ميهوب على تشخيص الكائنات الطبيعية التي تؤثر في الإنسان وتؤثر على مزاجه ولها دور في تحديد نمط حياته، فإلى جانب المطر والريح وقطرة الماء فقد شخص الشمس، التي تكشف وتضيء كل شيء بما في ذلك ملامح الناس وحركتهم وكأنها تراقبهم: "حتى تلك الشمس البرتقالية نراها تجلس إلى كرسيها لترقب القادمين مليا ثم تجفف عرقها وتعود إلى أبنائها الصغار في منزلها البعيد". فهو يحول من اللحظة الشعورية الداخلية إزاء تفاعل شخصياته القصصية مع عناصر الطبيعة إلى عنصر قصصي بل إلى شخوص قصصية تسهم في صنع الأحداث. فالمطر، الريح، الشمس هي كائنات مشاركة ولها دور وظيفي في تصعيد الأحداث، وليست مجرد صور خارجة عن الذات تنفعل بها، وهي لا تقترب عند ملامسة اللحظة الشعورية بل تقوم بصنعها وخلقها وهي تتعاطف مع الشخصيات، وليست مجرد موضوع في لوحة مشهدية وصفية بل يقوم عليها السرد وعبرها تتضح ملامح الحكاية وتنجلي الأحداث. "حزن القمر وتوقف عن اللعب فتكورت الأشجار حاضنة اياه. ولما سمع القمر بكاء الطفلين، سرت فيه حرارة غريبة فاقتطع عودا وعزف على أوتاره لحنا يحبه الصغار". هذا التحويل التأويلي شحن النص القصصي بدينامكية الحركة، وبتصميم موضوع القصة بلغة تضيء جوانب الأحداث من زوايا عديدة، وتحقق الترابط بين لغة الإنسان ولغة الطبيعة من حوله، وتغذي فعل الحوار والمشاركة. •معالجات فنية للنفس المظلمة تعالج بعض قصص "الورد والرماد" مظاهر الاكتئاب خاصة في قصة "أسرار المعلمة" نتيجة لأسباب عديدة منها فقدان للسيدة سعاد ابنتها، وأفكار عن الوجود العبثي وعن الموت الذي يترصد بالإنسان فيفرغ من الروح، فترى ابنتها الراحلة في صورة دمية، كما يعتمد السارد على التظليل في فن الرسم، حين يجعل المعلمة تكتشف أنها في ظلمة النفس. وعلى إنارة الشمعة الخافتة تستطيع رسم الجوانب المعتمة في نفسها، ولكنها لا ترى من الواقع إلا شحوبه: "كانت جميلة ونشيطة، أتعرفين سآخذك للمدرسة فيحكي لك الأطفال الصغار عنها. للأسف أنت لا تشبهينها في شيء. ما هذا الشحوب في شعرك الاسود وعينيك الزرقاوين؟ كانت لها عينان سوداوان كاستدارة الهلال وشعرها فاحم، أما قوامها؟ آه لو ترين قوامها. ولكنك شاحبة ولونك ذاهل ..". كما تعبر قصة "رجال بلا شمس" عن الاختناق وعن فقدان الحرية والقلق العبثي أيضا مستعملا رمزية لعبة اصطياد الفئران ورميها للقطط الجائعة، ثم تنحصر قضبان السجن على رواة القصة الذين عبروا عن هم جماعي في توقهم للحرية الغائبة، أما في قصة "الأنفاق" فيتحدث عن مسارب الحكايات في الذاكرة وفي الوجوه والتخيلات والأعمال الفنية والأمكنة التي يتنقل فيها كريم الإمام، فهل كان يكتب أم يحكي حكايات الاخرين أو كوابيسهم وأحلامهم؟ وفي "طعم القصة ورائحة المطر" فيتحدث عن الحوارات الباطنية بين الكاتب وشخصياته الذي يدافع عن نفسه وكأنه متهم إزاء شخصياته الورقية، تغالبه الذكريات ويتبرأ من القتل والاقتصاص من الواقع. "كيف أقتلك؟ انا نفسي لا أفهم ذلك. كيف أنسى الليالي التي قضيناها على سرير الوحدة والخوف الشتوي؟ وكيف أقتلك وأنسى ما رعينا معا من حشيش جوع وكلأ غربة؟". •أمكنة خارجية وأخرى داخلية لئن أهمل بعض المبدعين والنقاد أهمية المكان في القصة والتركيز على الحدث، فإن المكان يفرض نفسه كعنصر بنائي مهم في المجموعة القصصية "الورد والرماد" فالأديب محمد آيت ميهوب يهندس أحداث قصصه من الأمكنة الواقعية ويقسمها إلى أمكنة جزئية حسب النص، فلكل مكان قصة ولكل قصة حدث وزمن دارت فيه وشخصيات اخترقته. والمكان مقترن بالذاكرة، والذاكرة عنوان لوحة غلاف المجموعة، بل يشير إلى ذلك تصريحا في قصة "الأزرق الأسود": "كلما تذكرت الطفولة وفترة الشباب، تسلل بي خطو الذكريات إلى مدينتي القديمة، حاضنتي الأولى فيمتلئ أنفي بروائح البحر وتستعيد مسام الجلد استنشاق أنفاس ريح الشمال العذبة ولا تنسى العدسة السرية أن تريني دروبي القديمة. فأتسلق جبل الأزقة الممسك بعضها بأصابع الآخر أو أعود أفتش فاغر الفاه في متاحف المدينة وصورها البعيدة عن مكان لي قبل أن أولد بمئات الأعوام.." ص92. إن الأحداث شديدة الالتصاق بالأمكنة، وتختلف أنماط الشخصيات من مكان إلى اخر وحسب الفترة الزمنية أيضا، كذلك لكل مكان ألوانه وأبعاده الرمزية، فهناك أمكنة مفتوحة على الذاكرة وعلى وهج الشمس وهي أمكنة طفولية مضيئة، في قصة "رجال بلا شمس"، وهناك أمكنة مغلقة وذات أسوار عالية وهي السجن الذي تغيب عنه الألوان، فقامت القصة على ثنائية المكان وثنائية الزمن، فيحضر الماضي بالغياب. ونجد الأمكنة المتحركة تواجه عناصر الطبيعة المتحركة وعواصف الحياة أيضا ليتخذ المكان بعدا رمزيا في قصة "القارب والريح" حيث تعبر المرأة بعربتها القديمة الجسر المتحرك، في فضاء مفتوح على الشمس، على الريح على هطول المطر، كما الباخرة تواجه الرياح. وهناك أمكنة لها إيقاع الحياة الرتيبة تنفذ إلى طرق الرحيل والعودة كما هو الشأن في قصة "الرسائل تصلنا دائما" حيث تدور القصة في القرية، وتحديدا أمام سكة القطار حيث يعيش عم سعيد في غرفته الضيقة التي لا تغيب عنها حكاية امراة من الزمن الماضي وعدت بعودتها ثانية، فيسأل عنها كل المسافرين القادمين من المدينة. في "حكاية أجمل سمكة في العالم" تدور القصة في حي الصيادين، حيث تظهر عروس البحر وتتحول إلى أسطورة لمدينة بنزرت كما المدن الكبرى المفتوحة على البحر، وفي قصة "الورد والرماد" كما في قصة "الأزرق الأسود" تدور أحداث القصص في مقبرة النصارى "اقتربنا من سور طويل عليه بعض القضبان المشبكة ورأينا داخل السور قبورا غريبة بعضها من رخام وبعضها غرف طويلة وبعضها من حديد، وعلى كل قبر عصايان واحدة طويلة والأخرى صغيرة ملصقة بأعلى العصا الطويلة" ص64. ويعتمد الكاتب على الرؤية الخارجية للمقبرة وعلى أحداث حصلت أيام الاستعمار الفرنسي، فهو يقرأ قصة المكان كقصة الماضي. في قصة "الأزرق الأسود" فهو ينفذ للمكان من الداخل حيث كتب "في البداية كانت تشدني إليها طريقة بناء القبور في غرفة تحوي الواحدة منها عائلة بأكملها وعلى باب كل غرفة صليب وسطه المسيح يتلو صلواته, وعلى رخام القبر، صورة الميت وكتابة في لغة جميلة: "هنا يستريح..". كنت أظل ساعة ساعتين أو ثلاث ساعات أحيانا لا أفعل شيئا غير التفرج على القبور ونقوش أبواب الغرف" ص 93. ويتحول المكان إلى فضاء اللوحة في قصة "تلك المرأة أولئك الرسامون" من خلال رؤية تقترب بمرور الزمن من الصورة الحقيقية بعدما كانت تثير الكثير من الأخيلة والتشخيص في مرحلة الطفولة، ثم يقص الأخ الصورة لتتحول إلى رؤية فنية قادرة على إعادة الرسم والتجسيم من خلال التصور الذاتي للراوي وهو غير ثابت ويقترن بإحساس فني ذاتي ونسبي. في "طعم القصة ورائحة المطر" للأمكنة روائحها ومذاقاتها وكل العلاقات الحدسية التي تبعث القدرة على التصور والإبداع. إن الأمكنة محدودة في "الورد والرماد" ولكنها تمثل مكونات جزئية لمكان كلي هو مدينة بنزرت بالميناء البحري، بالجسر، بالشاطئ، بالمقهى، بالسكة الحديدية، بالمقهى والساحة وينفتح على أمكنة حاضنة للمخاوف والهلوسات والسكينة أيضا في قصة "أسرار المعلمة"، فأسرارها من اسرار الأمكنة التي تذكرها برحيل ابنتها، على السرير وعلى ضوء الشمعة الخافت، الفصل، ففي تجاويف النفس وأشباحها ترسم لوحة الذكرى وتتشبث بدمية في صورة منقضية وزائلة عن ابنتها التي رحلت. وتقوم القصص في "الورد والرماد" على فضاءات خارجية تتنفس من خلالها الطبيعة وأخرى داخلية هي ملاذ لما يعتمل في النفس من ظلمة وخيال، ويحول بعض الأمكنة الداخلية إلى أمكنة عبثية مثل قصة "أسرار المعلمة" فهي استعارة رمزية للموت والسكون وغياب المعنى في الفن والحياة حين تتحول الطفلة في صورة دمية، لذلك حضر البير كامو في مناخات هذا النص أكثر من مرة "عند المنعطف الخامس، صاح البير كامو ثم صمت، وعلى المقود جلس أناس كثيرون بلا وجوه ينظرون اليه ويحاولون إيقاظه من جديد". كما تحدث عن النفق المظلم في الذات في نص الانفاق ومن خلال تصدير لارنست ساباتو ".. كان هناك دائما وفي جميع الأحوال، نفق واحد، فقط مظلم وموحش، هو نفقي أنا". "الورد والرماد" من القصص التي صورت مشاغل السارد الفنية الجمالية في معالجة الواقع الروحي والاجتماعي عبر هذا العمل القصصي المتوج بجائزة وطنية عند صدوره.

مشاركة :