عصر ما بعد التنوير ... عالم مجنون - مقالات

  • 12/29/2016
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

عالم مجنون، هذا أفضل ما يمكن أن نسمي العصر الذي نعيشه وأفضل ما يمكن أن نصف بها الإنسانية. ما يستوجب هذا القول هو إلقاء نظرة سريعة على العالم وما يجري فيه من مجريات وأحداث. فالثورة الأوروبية في فرنسا وبريطانيا نقلت الإنسان إلى عالم جديد مختلف، مرحلة انتقالية أبعدت الإنسان عن الروح ووصاية الكنيسة ورجال الكهنوت والملك الذي عُد ظل الله في الأرض، وقرّبته إلى العقل والتفكير وقانون السببية. فتفجرت بذلك طاقات الإنسان وانتقلت البشرية من عصر عُرف بالظلامي المتخلف وأدخلته في عصر مختلف تماماً سُمي بالتنوير enlightenment. اشتق الاسم «التنوير» من النور الذي شقه العقل الإنساني في ظلام الجهل والتخلف الذي كان يعيشه الإنسان الأوروبي بالعصور الوسطى. بفضل عقله استطاع الإنسان الأوروبي أن يكتشف ويُبدع ويُنتج ما لم تستطع قرون من الزمان والملايين من الناس من قبله أن يفعلوه. فالعقل صنع الآلة وضاعف إنتاج الأرض وعمّر المُدن وازدهرت الاقتصاديات فصار الأوروبي غنياً يجوب الأرض ويتوسع ويصنع وينتج ويؤسس نظريات جديدة في مختلف المجالات. فكلما تعمّق بالفكر وجد نفسه يستكشف أكثر فأكثر من حقائق الطبيعة والقوانين المحيطة، فاتسعت بذلك رقعة العلوم الرياضية والهندسية وازدهرت الجامعات والعلماء في هذه الفترة بشكل رهيب ونشطت الابحاث والانجازات العلمية بتخصصات الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك. إلا أنه لم يسلم تماماً فقد جلب على نفسه مشاكل جديدة لم تكن بحسبانه حينما اعتقد أن العقل وحده قادر على حل كل المشاكل وكل التحديات. فمع هذه الطفرة العلمية ازدادت مشاكل الإنسان الأوروبي الاجتماعية وخصوصاً حينما بدأ يصطدم بمقاومة الشعوب المُستعمَرة. هذه الاحتكاكات والمصادمات أخذت تتسع دوائرها فظهرت المشاكل والنزاعات الاجتماعية والنفسية وظهرت الحروب العالمية لأول مرة وهي نزاعات لم تخطر على باله من قبل، فعجز عن حلها وبدا يائساً حائراً لا يعرف كيف يتصرف. لذلك ارتفعت صيحات العلماء بأن البشرية بحاجة إلى مرحلة جديدة وثورة على التنوير والانتقال إلى عصر جديد آخر عُرف في ما بعد بمرحلة ما بعد التنوير. تشير مرحلة ما بعد التنوير إلى أن الإنسانية استسلمت لحقيقة مفادها بأن العقل البشري عاجز وقاصر عن الإتيان بحلول لكل المشاكل وخصوصا الاجتماعية والنفسية. وهذا ما دفعها للبحث في الاديان والاخلاق لوضع حد للتجاوزات والتعاملات اللاأخلاقية في العلاقات الاجتماعية والدولية. وها نحن اليوم نعيش هذه المرحلة الجديدة وما بعدها، فهل الانسانية اصبحت بخير؟ المُفترض أن الإنسانية اليوم تعيش أرقى مراحلها الفكرية والاجتماعية والعلمية، لأن الإنسان الحاضر تجمعت وتراكمت لديه جميع الخبرات والتجارب السابقة. لكن هل النتائج والشواهد الحالية تعكس هذه الفرضية؟ لا أظن، بدليل ما يحصل من حولنا. تُقيّم مجلة «فورين بوليسي» كلفة الحرب في اليمن بأنها تجاوزت 600 مليار دولار، وهو رقم قريب من تقدير «الايكونوميست». ولو أضفنا لها تكاليف الحرب في سورية والتي بالحد النازل تقريباً بحدود ايضا الـ 700 مليار، لوجدنا أننا نتحدث عن أرقام فلكية يصعب جمعها. طبعا لا تنسى أننا لم نشمل بهذا التحليل بقية حروب القرن العشرين والواحد والعشرين ولم نستعرض الضحايا والمصابين والمشردين وخلافه، هذه فقط ارقام مصروفة على العمليات العسكرية لحربين مازلنا نعيش أجوائهما. تصور أننا في عصر ما بعد بعد التنوير وما زلنا نجد هذه الأهوال. أضف عليها أن أميركا، الدولة العظمى في القرن الواحد والعشرين والأولى ديموقراطياً وسياسياً، يفوز في هذه الدولة مرشح يمتاز بأنه عنصري ضد النساء والأجانب وسارق لأموال الناس العامة. فهل يمكن أن نُسمي هذا العالم سوى أنه مجنون؟ hasabba@

مشاركة :