هناك الكثير من الدراسات الأنثروبولوجية التي سلطت الأضواء على أصول الجماعات البشرية وتاريخها وعاداتها وتقاليدها وطقوسها، ومن النتائج التي تم التوصل إليها أن البشر ليسوا كلّهم على نمطٍ واحدٍ من التفكير ولا نوع واحد من العقلية. ووفق التصنيف العام، هناك جماعات بشرية تعتمد التفكير المنطقي والعقلية المتحضرة منهجاً لها، وهناك جماعات بشرية جرت العادة أن نسميها "الجماعات البدائية"، وعُرفت بأنها الجماعات التي بقيت منعزلة عن العالم الخارجي، كما هو الحال في مناطق من آسيا وأستراليا وإفريقيا والمناطق الشمالية للقطب الشمالي في القارة الأميركية "الإسكيمو". والدراسات تُشير إلى أن تلك الجماعات البدائية تتميز بعقليةٍ خاصة تختلف كثيراً عن عقلية الجماعات المتحضرة، فهي لا تعترف بمبادئ العقل ولا بالعمليات العقلية الاستدلالية؛ لذلك سمّاها عالِم الاجتماع الفرنسي ليفي برول بـ"عقلية ما قبل المنطق". إن العقلية البدائية تمتاز بنفورها الشديد من العمليات العقلية الاستدلالية، فالرجل البدائي لا يصدق في الغالب إلا ما يراه ويلمسه، وأفكاره لا تتجاوز حواسه. وهي لا تعترف أيضاً بقوانين المنطق مثل: (قانون الذاتية)، لكلِّ شيء خصائص ومميزات ثابتة تبقى ثابتة أثناء التغير، فالإنسان يبقى إنساناً سواء كان صغيراً أو كبيراً مريضاً أو سليماً، و(قانون التناقض)، ويعني "النقيضان لا يجتمعان"، فلا يمكن أن يكون الإنسان في آنٍ واحد عاقلاً ومجنوناً، و(قانون السببية)، وهو ردّ الحوادث إلى أسبابها الطبيعية، كأن نرد سبب غليان الماء أو تبخره إلى وجود درجة معينة من الحرارة. ويقول أحد الباحثين الذي عاش بين قبائل "الإسكيمو": "لا يشغلهم سوى الصيد والغذاء أما فيما عدا ذلك فإنهم يعتبرون التفكير بوجه عام نوعاً من الهم". وتميل هذه العقلية البدائية إلى التفكير الغيبي الذي يعتمد على تفسير الظواهر بالأسطورة والسحر والإيمان بالقوى الخفية غير المرئية كالأرواح والشياطين، فأي حادث من حوادث الطبيعة أو ظاهرة من الظواهر النفسية يُفسر على أنه عائدٌ إلى قوة خفية غير مرئية، وهذا الاعتقاد الراسخ بالقوى الخفية جعل البدائيين لا يهتمون بالبحث عن العلل الطبيعية. أما في حال تعرض البدائي للفشل في عمله أو أصيب بمرض أو تعرض لكارثةٍ ما، فإنه يعتقد اعتقاداً جازماً إنما حدث له ذلك لكونه تعرض لتأثير خفي: إما لسحر ساحر أو نقمة أرواح الموت أو كيد الأرواح الشريرة. إن هذا النمط من التفكير البدائي ونوع العقلية الرجعي، نجده واضحاً ومتجسداً في أُناسٍ يعيشون في القرن الواحد والعشرين، والغريب في الأمر أنهم موجودون بيننا ولم يتغيروا رغم المؤثرات الخارجية مثل (الأسرة، المجتمع، المدرسة، الإعلام) التي تحيط بهم ومن المفترض أن تصقل نمط تفكيرهم ونوع العقلية التي يمتلكونها، إلا أنهم ارتأوا أن يحيوا تراث الأجداد الكامن في "الإسكيمو" وغيرها من المناطق المعزولة عن الإنجاز والتقدم البشري. وما زال بعضهم، عندما يتخطى اختباراً في حياته، "ينفش ريشه وعضلاته" ويُرجع الفضل إلى قدراته وموهبته، ولكن في حال فشل فشلاً ذريعاً يقول: "إن الله لم يوفقه ولم يكتب له النجاح"، وهو بقوله هذا يقول ضمناً إن الله لا يريد الخير لبني البشر! إلا أن الحقيقة إنه لم يبذل المجهود الكافي، ولم تتوافر الشروط الكافية لتحقيق ما يصبو إليه. ثمة مصطلحات يتناولها الناس ويؤمنون بها، وتم تحميلها بما لا تحتمل، مثل "المكتوب على الجبين تراه العين!"، و"قسمة ونصيب"، و"قضاء الله وقدره". لا أُريد أن أُفهم من بعضهم إنني ملحدٌ وزنديق، ولكن يجب أن يفهمَ أصحاب التفكير البدائي - الرجعي، أن الإنسان مُخير في كلِّ شيء إلا في بعض الحالات التي تسمى "القضاء والقدر"، ومثال ذلك ولادة الإنسان وموته، فهي بيد القدير سبحانه وتعالى. وهنا أود أن أطرح سؤالاً جوهريّاً: ما هو الأهم بالنسبة لله سبحانه وتعالى، الدين (الآخرة) أم الدنيا؟ والإجابة منطقيّاً تقتضي القول إن الآخرة هي الأهم، فإذا خيرك الله بشأن اعتناق الدين الذي تريد بقوله تعالى: "لا إكراه في الدين..."، فكيف يعقل أن تكون مسيراً في أمورٍ كالرزق والزواج وغيرها من القضايا التي تقتضي تحكيم العقل فيها. لن نرى بريق التقدم والتطور، ولن نخرج من براثن الجهل، ما دام أن بعضهم يؤمن بخزعبلات المتأسلمين التي تدعو إلى الضعف والاستسلام والخضوع إلى الماورائيات كما هو الحال في الجماعات البشرية البدائية، فالمشكلة ليست بالأديان، ولكن بالذين اتخذوا الدين غطاءً لتحقيق مصالحهم الضيقة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :