الشاعر أحمد فضل شبلول عن هذا المعنى أفضل تعبير عندما حركت في داخله رؤية الأماكن المقدسة. اختار عن وعي تفجر بئر زمزم (كموقف) يفجر لنا من خلاله مشاعره النقية. وهو يرى تلك الصحراء المهيبة تحوي مشاعر حجاج بيت الله الحرام للمغفرة والعفو، بعدما جاء معظمهم من كل فج عميق شعث غبر لا يبتغون سوى فضل الله ورحمته. أمام هذه المشهد يحرك الشاعر إحساسا صادقا نحو موطنه. وقد جاءت الدفقة تنساب من مسارب الشعور، تحركها رغبة في اللاشعور، ما تلبث إلا أن تتحور على شكل تساؤل: تسألُني الصحراء هل كنتَ تغادرُ أحبابَكَ بحرَكَ شطآنَكَ .. وسماءَكَ .. قلبَكَ .. لولاي؟ وهكذا يعادل (المحسوس) (اللامحسوس) ينبئ عن صلة الشاعر الوثيقة بالحقائق النفسية والكونية التي تلهمه في تجربته. وفي كل تجربة شعرية عناصر مختلفة فكرية وخيالية وعاطفية، وهي محاور جديرة أن نلقي الضوء عليها في ثنايا العمل الفني. المقابلة بين "الصحراء" و"البحر"، الدال الأول يراه أمامه ويملأ عليه منافذ نفسه، والدال الثاني يرتبط به حيث إنه موطنه، ولكن في المقابلة تلح عليه الصورة العظيمة والإحساس الضاغط. تسألُني الصحراء صباحًا ومساءْ فأغادرُها. إلى أين؟ ومشاعر البكاء تشدك (للبحر) ومشاعر الفناء تجذبك (للصحراء). وأيمِّمُ وجهي شطرَ البحرِ فتهربُ منّي الأمواجُ وتدخلُ في سردابِ الرملِ النائي. ولا تنقذك أبدا مشاعر الموطن أمام مشاعر المعتقد لأن الصحراء ببساطة رهيبة ممتدة ما بين (العبد) الفاني والإله ذي الجلال الخالد. فكيف يحتوي الجزء الكل؟ وكيف تغمر مياه البحر مسامات الوجد؟ وكيف يضحي الشاعر الصادق بكل صدق الصحراء المحتوية بيت الله الحرام المبدأ والنهاية. في اللهو في موطنه قرب شاطئ البحر يخفف من غلواء النفس، لا نجد أمام الجلال إلا الانبهار والفناء في الله. ويميز تجربة الشاعر ذلك البناء اللغوي وهو يستغل كل إمكانات اللغة الموسيقية والتصويرية والإيحائية والدالة على عمق خبرته واطلاعه، خاصة في استخدام ظرف الزمان. وكانت عادة في الشعر الجاهلي: "عمْ صباحًا يا شتائي" "عمْ مساءً يا ضيائي" وينقلني بعد ذللك الاستهلال إلى "حالة وجدانية" تعكس "أن الإنسان من تراب"، وهي هدئة وسط تدفق المشاعر، تذكرنا أن ذلك الفؤاد المنسكب فينا من روح الله، والذي جلا عنه رؤية الصحراء، ذلك الضياء قد حن إلى رحلة العودة. تعكس صورة نفسية ما بين "الدوافع الأولية"، "حب الوجود"، والدوافع الثانوية "حب الفناء"، وكيف تذوب محبة الوجود في الفناء، وكيف يذوب الفناء في الوجود. "عمْ تُرابًا يا فؤادي" "عمْ فؤادًا يا ترابي" ووسط هذه الصور الجزئية التي تتدفق في إيقاع آخاذ، تتضاءل رغبات الإنسان في عناق معالمه، لأن ما حدث حرك فيه تلك الرغبة في المشاركة عله يستمد من المعاناة وأصحابها فؤاده ا لمنشرخ، وهو عناق ضاغط (غصبا عنه) لا يقدر إلا على المشاركة الوجدانية: وأظلُّ أُنادي تسقطُ منِّي حنجرتي يهجرني قلبي يتسكعُ في "أنفاقِ الغربةِ" إن هذا الفعل (يهجرني) قلبي يعكس مشاعر الغربة، وهو موحي في موقعه، يكمل الألفاظ الأخرى لصياغة الصورة الكلية: (التسكع)، (أنفاق)، (الغربة). ويعلو رتم العزف الداخلي في متفجرات عدة تعكس معايشة الشاعر لصوره وطول مدة إنضاجها في داخله. يقدم لنا عالمنا الخارجي المثير للضجر والذي يعكس علو رتم الماديات التي تسحق أزهار الشاعر بلا هوادة. يمرقُ بين السياراتِ الذئبية الشاعر أحمد فضل شبلول يجري فوق "كباري" الوحشة. الفعل المضارع (يمرق) أو (يجري) يعكس الأزمة وعدم الاتزان ولفظ (الذئبية) صفة تدل على الموصوف مضاف إليه مشاعر الذئب الذي يندفع ويحاور هؤلاء العابرين المغتربين، وهي صورة تلاحظ في المدن الكبرى. ويعود مرة أخرى لتلك الخاصية المتفرد بها الشاعر ويجيد دفعها في الوقت المناسب، وهي (المقابلة) ما بين (المادي) و(الروحي)، (المحسوس) و(اللامحسوس) ببراعة وصدق، فيبدأ المحاورة: قلتُ لقلبي: هيا نقرأُ وجهَ المغتربين ووجهَ المطرودين قَهقهَ قلبي قال: فلتقرأْني وفق هنا في نقل أشياء وجدانية من خلال وسيط هو قبله. أن يبدأ في مشاركة هؤلاء الفقراء مخاوفهم وعدم قدرتهم على عبور الطريق الممتلئ بالسيارات المسرعة، ولكنه قلب يمتاز بالنبل، قال: اقرأ نفسك. لغة تركيبة مبدعة تتفجر بالصدق والوعي والإحساس، تقود إلى "قمة التوهج" والتضمين في قوله: "تلك الإيام نداولها بين الناس" فيه من النضح والوعي الصوفي لأن هذه دار فناء ورحلة لا تثبت فيها معالم الأشياء ولا المظاهر، وربما لجأ الشاعر إليها لذلك الأسى المعنّى الذي اجتاح جلده وعدم ملكيته لتلك العصا السحرية التي تحول العالم. وهو موفق فيه تماما، وإن كانت العبارتين الآتيتين تشتت بعض الشيء الصورة الكلية: اقرأْ صمتَ الفقراءِ حديثَ الصحراء {وتلكَ الأيامُ نداولها بين الناس} ولكن عند التعمق في اللفظتين: صمت وحديث، نجد التورية، تلك التي يمكن أن تجمعها حالة شعورية واحدة، في حالة كون الشاعر الذي يصف ولا يشارك. على كل حال العلاقات المتداخلة ما بين المادي واللامادي أو المعنوي تجعله يتبادل العلاقات. وتعكس هذه السطور حالة من "التوحد" تحرقها رمال الصحراء العانية المسيطرة وتذكر الإنسان دوما بالفطرة، وتنتقل إلى وجدانه عبر هذا القلب الثرثار: اقرأْ وأجبْني فأنا قطعةُ صحْراءٍ في صدرِك قطعةُ فحمٍ في جانبِك الأيسر تتشعبُ عندي وديانٌ وسهولٌ وتلالٌ وجبالْ يا لهذه المعالم الخالدة التي شهدت مولد الإنسان وصراعه وكفاحه! ويا له من "تماثل عضوي" يخيف ما بين الإنسان محدود الرؤية، وما بين ما يشاهده أمامه، كم من أمم ورجال صهرتها الصحراء. وكم من مهج وأفئدة هفت إلى هذا المكان المبارك، وكم من رجال صناديد كافحوا الباطل: تتراكمُ فوق دمائي أسئلةٌ ودهورٌ وأساطيرٌ ومُحالْ لكني أبني مدنًا للمستقبل. ويبزغ الأمل وسط الصحراء، كي يخفف قليلا من غلواء واقع رُفع إلى تلك اللحظة الإيمانية، وأعانته صنعته في صدق الوصف، والتعمق في الشعور، والتمثل الوجداني في اللاشعور. لحظة صدقة كغرفة إنعاش لزماننا المادي المسرع بالعري لجنة الإنجازات التكنولوجية، في محاولة لإذابة تراثه الروحي الملهم. وأحطِّم غربةَ أوردتي وشراييني تتفجّر تحتي زمزم تهوي أفئدةٌ حولي تأتيني أفواجٌ وقبائل فأجبْني وهنا يتصاعد الموقف الشعوري وتطغى الروح على متطلبات الجسد، بصورة إيجابية تتحطم فيها الغربة، ليس بمعناها المادي، ولكن بهذا المعنى المتغلغل في اللاشعور والمنغرز في بنيتنا الداخلية بموقف يذوب فيه الجسد أمام ماء زمزم الذي نتمنى أن يغسل كل الأدران المادية، حيث تتفجر نافورات الأسئلة والألفاظ توائم الموقف النفسي تماما. من الذي يسأل؟ العبد. ومن الذي يجيب عن الأسئلة؟ الله سبحانه وتعالى "قل إني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان"، ومن يخفف ألم الغربة؟ ماء زمزم المتفجر من أعماق الصلد، يروي العطش. وتتدفق معاني قرآنية خالدة على لسان سيدنا إبراهيم: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} الآية (37) سورة إبراهيم. وبعد .. هذه تجربة شعرية متميزة، ورؤى صوفية مبهرة موحية، وغربة ققد أعيد صياغة مفهومها، فليست غربة عن وطن، ولكن غربة إنسانية عن معاني الإيمان. وهذه القصيدة بمعمارها الحر، لا نجد بها لفظ زائد أو معنى قلق أو اشتطاط في الدفقات الشعرية، والخروج بها عن دائرة العقل، فلا شيء يطير ولا يستقر، ولا بحث عن لغة الجسد التي ابتدعها بعض الشعراء، فهي جديدة في حدود الذوق وينبطق عليها قول أبرز نقاد فرنسا المعاصرين جانيان بيكو: "إن الشعر المعاصر قد أصبح نشاطا روحيا مصاحبا للواقع، بمعنى أنه إبداع فني للواقع، ويستوي أن يكون هذا الواقع خبرة نفسية، أو موضوعا وصفيا". عبدالنبي السيد كراويه
مشاركة :