النسخة: الورقية - دولي حين أطاحت عاصفة منزلها على ضفاف النهر في 2009، خسرت جهانارا خاتون السقف الذي يؤويها، وفقدت بعد أيام زوجها. وبلغ بها الفقر مبلغاً حملها على بيع ابنها وابنتها في مقابل 450 دولاراً لصاحب مصنع من أجل تسديد الديون المتراكمة. وسبحة خسائرها لم تتوقف عن الكر. وهي اليوم تعيش في كوخ من قصب البامبو أدنى من مستوى البحر على بعد 50 يارداً من ساتر ترابي. وهي تمضي الأيام في جمع روث البقر من أجل استخدامها في إشعال النار وفي زرع خضار في تربة سمّمها الملح. ويتوقع علماء المناخ أن شطراً كبيراً من ساحل بنغلادش ستغمره المياه مع ارتفاع مستوى مياه البحر وتعاظم قوة العواصف. وقد يجهض إعصار آخر حياة خاتون الجديدة. ولكنها تسعى إلى مواصلة حياتها مثلها مثل ملايين الأشخاص الذين يعيشون وقتاً مستقطعاً قبل الكارثة في هذه الجزر النهرية وأكواخ البامبو، ويتخذون قرارات عسيرة من غير أمل بمستقبل أفضل. ويلتقي أبرز علماء العالم في يوكوهاما في اليابان هذا الأسبوع لمناقشة نتائج ما تشير إليه التوقعات، أي ارتفاع منسوب مياه البحار 3 أقدام في 2100. ويجمع خبراء المناخ على أن حرق الوقود الأحفوري يلعب دوراً بارزاً في ارتفاع معدلات غاز الدفيئة والاحتباس الحراري في المعمورة. وأكثر ما يدعو إلى القلق هو ذوبان الجليد في أقصاع العالم وارتفاع مستويات مياه البحر وغرق مناطق ساحلية. ويتوقع أن تخسر الدول – الجزر مثل المالديف وكيريباتي وفيجي، شطراً راجحاً من أراضيها وأن يضطر ملايين البنغاليين إلى النزوح. وبحسب رافايل روفني، أستاذ الشؤون العامة والبيئية في جامعة انديانا في بلومينغتون، تتصدر بنغلادش لوائح خطر ارتفاع مستويات البحار، ويتوقع أن تكون أكثر المتضررين. ولا شك في أن العالم لم يعَدّ العدة لجبه مثل هذه الأخطار. وتتعاظم مشاعر الغضب والتنديد في الدول النامية احتجاجاً على تحمّلها أضرار الاحتباس الحراري في وقت لا يعتد بنسب مساهمتها في التلوث البيئي. فهذه الدول تنزل بها الكوارث المترتبة على التلوث. وفي مؤتمر عن المناخ عقد في وارسو في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، علت أصوات دول تجبه أخطار «وجودية»، منها بنغلادش التي تنتج 0.3 في المئة من غازات الدفيئة المسؤولة عن التغير المناخي. وبعض المسؤولين طالب الدول الثرية بتعويض الدول الفقيرة عن تلويث المناخ، وبعض آخر دعا الدول المتطورة إلى تشريع أبوابها أمام المهاجرين المناخيين. «وهذه قضية عدالة شاملة... يجب أن يمنح هؤلاء المهاجرون حق اللجوء إلى الدول التي انبعثت منها الغازات»، يقول عتيق راحمن، مدير مركز بنغلادش للدراسات المتقدمة وهو عالم مناخي بارز في بنغلادش. والحق أن دلتا الأنهار على وجه المعمورة كلها تهددها نتائج ارتفاع مستويات المياه. ولا شك في أن مدناً مثل لندن والبندقية ونيو أورلينز مهددة، لكن الدول الأكثر فقراً ستعاني أشد آثار الأزمة. وأبرز هذه الدول هي بنغلادش. والكثافة السكانية فيها هي الأعظم في العالم. ففي دلتا بنغلادش، وهي مؤتلفة من 230 نهراً كبيراً وينبوعاً، يعيش 160 مليون نسمة في مكان مساحته خمس مساحة فرنسا. ولا يخفى أن بنغلادش لم تسهم إسهاماً يعتد به في التلوث الصناعي. وثمة عدد من العوامل التي تفاقم أزمتها. فهي تستخرج مياه الشفة من المياه الجوفية من أجل تفادي مياه الأنهر الملوثة. ولكن استخراج المياه الجوفية وضخها يقوض تماسك التربة. ومع ارتفاع مياه البحار، تغرق شيئاً فشيئاً المدن البنغالية، وتتعاظم مخاطر الطوفان. وتساهم هشاشة الحواجز المائية المبنية في تفاقم المشكلة. ويجمع العلماء على أن 17 في المئة من بنغلادش ستغرق عام 2050، وسيبلغ عدد النازحين 18 مليون نسمة. وبدأ السكان يغادرون أقرب القرى إلى دلتا الأنهر في خليج البنغال. ويبلغ عدد النازلين في بيوت الصفيح في العاصمة داكا 5 ملايين، منهم 1.5 مليون نازح من خليج البنغال. وأحزمة الفقر التي تستقبلهم في دكا شيّدت كذلك في أراض منخفضة مشرعة على خطر الغرق والفيضانات مثل أراضي قراهم. وتتوالى الأعاصير والعواصف، وتزيد ملوحة الأنهار وتسمم التربة الزراعية. ومشاريع الحكومة البنغالية لدرء آثار الأزمة لا ترتجى منها فائدة، بل هي تفاقم المشكلة واحتمالات الطوفان. فهي تشيد السدود وتجرف الوحول وتستخرج المياه الجوفية. ويرى بعض العلماء أن إلقاء لائمة الأزمة على الدول الغربية فحسب مجحف. فالمسؤولية تتحملها كذلك الحكومات المحلية. ويتوقع أحد العلماء أن يرتفع منسوب المياه في بنغلادش 13 قدماً عام 2100، أي أربعة أضعاف المعدل الدولي. وفي منطقة تبدو فيها الأرض خطاً بني اللون يفصل بين السماء والنهر- نحو ربع مساحة بنغلادش أدنى من مستوى البحر بـ7 أقدام- مترتبات ارتفاع مستوى المياه كارثية. وثمة من يخالف هذه التوقعات ويتنبأ بألا يزيد ارتفاع المياه عن 5 أو 6 أقدام. وتعم مؤشرات تآكل التربة دلتا نهر الغانج- وهي أوسع دلتا في العالم ومصب شطر كبير من مياه الهيمالايا. وتضاريس بنغلادش الجغرافية تشرعها على مصائب المناخ السيء: فخليجها على شاكلة حرف V اللاتيني ويستقطب الأعاصير إلى الساحل. وأمثال خاتون كثر. وليلة العاصفة انهار ساتر ترابي، وتبدّد منزل عائلتها في دقائق قليلة. ولم يسعها إنقاذ ممتلكاتها، فوضعت أصغر أطفالها على ظهرها وكافحت مع زوجها وولديها لبلوغ أرضٍ عالية المستوى. وعلى بعد كيلومتر، «أفلحتُ في الإمساك بشجرة وساعدت زوجتي على الإمساك بها كذلك. وبقينا على هذه الحال 3 ساعات قبل الانتقال إلى سقف كوخ قريب. وأمضينا وابنتي وأولادها ليلة عصيبة نحاول فيها تفادي الأفاعي التي هربت كذلك من انهيار التربة. وشربنا مياه المطر. وبعد يومين وصلت الإغاثة وزودتنا مياه شفة وطعاماً. لكن زوج ابنتي فارق الحياة بعد أيام. وقبل رحيله استدانت العائلة أموالاً من رجل جشع لبناء الكوخ وعلاج الزوج»، يقول قدوس ساتر والد خاتون. * صحافي، عن «نيويورك تايمز» الأميركية، 28/3/2014، إعداد م. ن.
مشاركة :