فرق شاسع بين الليبرالي والريبراري، يتجاوز حرفَي الراء واللام القريبين من بعضهما نطقاً ورسماً، وهو التباس يظلم أحدهما، ويرفع قيمة الآخر لدى المتلقين، ويضرب حسابات التعامل معهما كثيراً، وأعتقد أن "عبسي" قام ذات مرة في "مغامرات عدنان" بتمثيل هذا الفرق بين الليبرالي والريبراري في مشهدٍ خالد. ولأن الليبرالية مأخوذة من كلمة ليبيريت بالفرنسية أو ليبرتي بالإنكليزية وهما تعنيان الحرية، يؤمن الليبرالي بحرية الفرد وينظّر لها وينافح من أجل ترسيخها، ويؤمن الريبراري من جهته بحرية المستبد ويبررها ويدافع عنها في مواجهة الرأي العام، وبينما يقدِّس الليبرالي رأي الفرد ويتقبله حتى في حالة الاختلاف، يقدس الريبراري حكم الفرد ويؤصله، ويستدعي الحُجج والبراهين لتعزيزه، ويسنّ رماحه ضد أي تراخٍ لقبضة الفرد في التعامل مع العامة، وفي حين يسخّر الليبرالي قلمه لحثّ همة العامة للارتقاء بأنفسهم، يتمحور رأي الريبراري حول انتقاص العامة وجعلهم سبباً في كل تخلُّف وتأخُّر. الليبرالي في العادة قارئ نَهِم في علوم الإنسان، حسَّاس لما يجرح مشاعره أو يمس كرامته، يتقطب جبينه حينما يرى شخصاً يُنتقص بسبب معتقده أو عرقه أو لون جواز سفره، ولا يتوانى عن استلهام موقفٍ كهذا لتسجيل موقف أو كتابة مقالة أو قيادة حملة، وعلى العكس، لدى الريبراري ثقافة قشرية مرتكزة على المنتديات وعناوين الصفحات الأولى، يتعامى بسببها عن حاجيات الآخرين وقضاياهم، أو يجد فيها فرصةً سانحة للنَّيل من خصومه بلومهم عليها، أو الانشغال عنها بقضايا نخبوية لا طائل منها ولا مردود لها. يكتب الليبرالي القليل من الكتب وتستمتع النخبة بحديثه وتقول له: "يا ليتهم مثلك"، إلا أن العامة تكرهه بسبب اللدغة العقلية لديها بين اللام والراء، وأيضاً لأن الليبرالي ضعيف عادةً أمام الريبراري، فالأخير يظهر على القنوات التلفزيونية المرموقة ويكتب في أعرق الصحف، رغم أن أحداً لا يقرأ مقاله إلا عندما يأتي بالطوام و"الطعات"؛ لذا يُكثر منها ضماناً لمعدلات عالية من القارئية التي قد تنطوي على السخرية في كثير من الأحيان، لكنه يوصَف بكل سهولة بالمفكر والكاتب والناقد الكبير. يحزن الليبرالي لما يعتبره "ضيق أفق المحافظين وقصور فهمهم للواقع"؛ لأنه يؤمن بشراكتهم في الإصلاح المجتمعي والإنساني؛ لذا تجده أحرص عليهم من بعضهم أحياناً، بينما على الجهة الأخرى، يطير الريبراري بذلك الضيق والقصور فرحاً، ويجد فيه فرصةً للتشهير بهم في وسائل الإعلام الخارجية والتحريض عليهم في الدوائر السياسية، ويعدّه ميزة تدل على سعة أفقه وعميق فهمه أمام هؤلاء "الدراويش"، رغم أنه لا يتوانى عن الرقص حتى مع الأكثر تطرفاً منهم على نغمة واحدة إذا استدعت القيم الريبرارية ذلك. ومع الفرح والحزن وعلى مستوى السياسة الدولية لهما قصة أخرى؛ إذ لا يُسر الليبرالي حينما يفوز حزب متطرف بأي جولة انتخابية في بلدٍ ما حول العالم؛ لأنه وبحكم طبيعته لا يميل للمتطرفين والشعوبيين، لكن ذلك الفوز يشعل قناديل الفرح عند الريبراري الذي يستغل المناسبة ليكشف لك عن عوار الديمقراطية وعدم صلاحيتها وكيف أنها كانت السبب في وصول أدولف هتلر لحكم ألمانيا وتدمير أوروبا في الربع الثاني من القرن العشرين. الريبراري أكثر مقدرة على نسج العلاقات المفيدة، فلديه في العادة بين النخبة أصدقاء يصنعون منه كاتباً ولو لم يكن يصلح حتى ناسخاً، أو مذيعاً ولو لم يكن يصلح حتى أراجوزاً، أو مطرباً ولو لم يكن يصلح حتى طبالاً. في المقابل أصدقاء الليبرالي غير مفيدين كثيراً؛ لذا تجده يكتفي بنشر أفكاره على هوامش شبكات التواصل الاجتماعي ممنّياً النفس بمتابعة من هنا أو إعادة تغريد من هنا أو إعجابٍ من هناك، فالجمهور يحسبونه على صاحبه الأول. وعلى الرغم من كل ذلك الاختلاف، فإن كلاً من الليبرالي والريبراري يشترك في عامل شديد الأهمية، هو "النضال" وإن اختلفت ساحات النضال التي يتواجدان فيها، فبينما يُفني الليبرالي عمراً في النضال ضد نظام مستبد وثقافة سائدة ومسؤول فاسد، يكون الريبراري مشغولاً بالنضال ضد حقوقي أعزل وهاشتاغ نشط ومتدين بسيط. كما يشتركان في حالة أخرى؛ حيث يكون الريبراري في أسوأ أحواله عندما يكون الليبرالي في مرمى سهام المحافظين، ليس لاشتعال جذوة ليبراليةٍ خامدةٍ في صدره، وإنما بسبب الفصام الذي يصيبه في تلك اللحظة، فهو لا يعلم أيهما أولى هنا، الشماتة بالليبرالي والاستفصاح أمامه حول نجاعة الريبرارية أمام الليبرالية، أم التصدي للمحافظ وحماية الليبرالي منه. ولعل لبدايات كل من الليبرالي والريبراري دوراً في ذلك؛ إذ ينشأ الليبرالي منفتحاً، تتشكل ثقافته من خليط من التعاليم المقدسة، والمعاشرة الإنسانية، والآداب والفنون، يزور البلدان، ويتعرف على الحضارات، ويرى في كل منتوج بشري لوناً يضيف لجمال اللوحة الكبرى، ثم يترجم كل ذلك الرصيد عند نضوجه تنويراً وتسامحاً ونصرةً للمهمشين واحتراماً، لكل أحد في منظوره أن يعتقد ويمارس ما يشاء بكل ارتياح. وعلى النقيض، ينشأ الريبراري منغلقاً ومنكفئاً، تتشكل ثقافته من مصدر واحد داخل مدرسة واحدة في فكرة واحدة، معادٍ للتعدد وكارهٍ للآخر، يزدري مخالفيه، يحرّم الآداب والفنون ويبغضها، ويمنع نفسه الكثير من المتع تربيةً وتهذيباً لها، ثم يكبر ويقرر الخروج على ذلك، فينفث على الناس ما تراكم لديه -طوال سنوات التنشئة- من أمراض، ويضيف ماضيه إلى قائمة أعدائه، ثم يحاكم المجتمع عليه. كاد "عبسي" أن يتدحرج من ليبرالية صديقه "عدنان" إلى ريبرارية الشرير "نمرو" في الحلقة الخامسة عشرة؛ إذ أغراه "نمرو" بتعيينه إدارياً وأكل ما يشاء من اللحم والركوب على الخيل بمعية "أميرة"، وهي حوافز أسالت لعاب صعلوكٍ يسير بسروال برتقالي دون قميص كـ"عبسي"، لكن ليبرالية "عدنان" غلبت ريبرارية "نمرو" في وجدان "عبسي"، عندما عزمت "أميرة" على ذبح عنزة وليدة مغصوبة من المواطن المسكين "شريف" ليأكلها "عبسي" باعتباره إدارياً تلبَّى كل رغباته، إلا أنه رفض ذلك بشكل قاطع لما ذكّرته بمكانته قائلةً: "يحق للإداري أن يفعل أي شيء"؛ إذ انحاز "عبسي" إلى المواطن "شريف" رافعاً صوته في وجهها بابتسامته المعهودة: "إني مستقيل". عبسي.. انت ما مثلك بها الدنيا ولد. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :