تمر تركيا اليوم في منعطف تاريخي مهم، وسبق لها أن خبرت منعطفين تاريخيين بارزين، أولهما قرار البرلمان، وهو كان خرج للتو مظفراً من حرب استقلال وبناء دولة في 1923 بقيادة مصطفى أتاتورك، بالانتقال إلى الجمهورية وقوانينها وأسسها. والمنعطف الثاني إثر الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها تركيا من دون خسائر تذكر. وحينها، قرر عصمت إنونو وجلال بيار، رفيقا أتاتورك في التحرير وإنشاء الجمهورية، انتقال الحياة السياسية من قيادة الحزب الواحد، إلى التعددية الحزبية. وفي الحرب الباردة هزت الديموقراطية التركية ثلاثة انقلابات عسكرية. وبدا أن عهد الانقلابات ولى إلى غير رجعة، ولكن المحاولة الانقلابية في تموز (يوليو) الماضي باغتتنا. وها نحن ذا في تركيا نقف، اليوم، على عتبة انعطافة تاريخية ثالثة: محاولة الانتقال من نظام برلماني غير مطلق الصلاحيات، إلى نظام رئاسي تنفيذي واسع الصلاحيات، وهو المشروع الذي يبدأ البرلمان مناقشته هذا الأسبوع. وفي المشروع الرئاسي الجديد نقطتان بارزتان، الأولى تنص على إمساك الرئيس بالسلطات التنفيذية كلها، مع إلغاء منصب رئيس الوزراء، والثانية على أن الرئيس ستكون له سلطة واسعة على مؤسستي القضاء والتشريع اللتين لطالما اتهمهما أردوغان بأنهما تعرقلان وتؤخران تحقيق مشاريعه الطموحة. وقال زعيم المعارضة كمال كيليجدار أوغلو أمام البرلمان، إن إقرار هذا النظام يفضي الى إرساء نظام الرجل الواحد، والحزب الواحد. فالرئيس في النظام الجديد يعين 12 من قضاة المحكمة الدستورية العليا الخمسة عشر، كما يعين شطراً راجحاً من أعضاء المؤسسة العالية للقضاء ووكلاء النيابة، المعنية بتعيينات القضاة وترقياتهم وتنقلاتهم مع وكلاء النيابة. ولا يخفى أن أردوغان سعى إلى هذا الأمر منذ 2011، ولكن الانتخابات لم تسعفه ولم يحصل نواب حزبه على المقاعد الكافية في البرلمان لتعديل الدستور من دون الحاجة إلى دعم المعارضة. ولكن الأمور تغيرت إثر مبادرة زعيم حزب الحركة القومية، دولت باهشلي، الى إعلان ضرورة إرساء إطار قانوني «لحالة الأمر الواقع» الناجمة عن تجاوز أردوغان صلاحياته الدستورية كرئيس يفترض به الحياد. وتذرع الرئيس بأنه منتخب من الشعب وليس من البرلمان. واقترح باهشلي دعم المشروع الرئاسي. والموقف المفاجئ لزعيم القوميين أحدث سجالاً داخل الحزب الذي لطالما جاهر برفضه النظام الرئاسي، ونعلم أن 5 نواب قوميين من 40 نائباً سيصوتون ضد المشروع، واستقال نائب زعيم الحزب أخيراً للأسباب نفسها، وقال انه سينضم إلى المعارضين. في هذا المشهد، يبدو وضع رئيس الوزراء بن علي يلدرم الأكثر حرجاً، فهو يدعو الى نظام سيأخذ من تحته كرسي رئاسة الوزراء بعد إلغاء المنصب. وليس هذا فحسب، بل إن النظام الجديد يبيح عودة الرئيس أردوغان إلى حزبه، وتوليه رئاسة «العدالة والتنمية». فيخسر بن علي زعامة الحزب كذلك. وقد ينظر رئيس الوزراء الى القسم الممتلئ من الكوب، فيقول إنه سيحصل على منصب نائب رئيس الجمهورية. وثمة أصوات في حزب «العدالة والتنمية» الحاكم تعترض على المشروع، لكنها أصوات منخفضة جداً، وتبدي انزعاجها من الارتكاس إلى دولة الحزب الواحد، وترى أن عدم الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية له عواقب سلبية. فلو تغيرت الأحوال في تركيا، وبلغ الرئاسة شخص غير أردوغان أو من المعارضة، برز خطر أن يستخدم ذلك الرئيس صلاحياته ضد «العدالة والتنمية». وإذا خسر الحزب الحاكم الانتخابات أو جاء في المرتبة الثانية، على رغم فوز أردوغان برئاسة الجمهورية، فكيف يتصرف الرئيس مع برلمان معارض له؟ يصير أردوغان زعيم المعارضة البرلمانية وهو رئيس كامل الصلاحيات. وإذا قررت الغالبية البرلمانية غير الموالية لأردوغان إقرار تغيير دستوري، قد يلجأ الى حل البرلمان. فندخل أزمة سياسية قد لا تنتهي. ويبدو أن نواب «العدالة والتنمية» الأكراد منزعجون من التحالف المفاجئ مع القوميين، ويقولون أنهم لا يستطيعون تفسير هذا الأمر للناخب الكردي. والوضع الجديد المقترح سيؤثر في المؤسسة العسكرية: القرارات الأخيرة تلحق قائد الأركان بالرئيس مباشرة وليس بوزير الدفاع. ولكن الأخير هو من سيعين قادة الجيوش وهم سيتبعون له وليس لقائد الأركان، وهذا نظام غريب غير مسبوق في العالم. وثمة معارضة لهذا المشروع في البرلمان في صفوف الحزب الذي اقترحه على التصويت. ولكن هل ثمة فرصة لظهور أصوات المعارضين؟ هذا وثيق الصلة بتصويت «العدالة والتنمية» قريباً على مشروع القرار الذي سيعرض بعد ذلك على الشعب. * كاتب، عن «حرييات» التركية، 7/1/2017، إعداد يوسف الشريف
مشاركة :