يبدو الطقس، عزيزي القارئ، شأنا متعلقا بالكتابة داخليا وخارجيا وفي شتى الأحوال، عندما لا يكف عن الإحالة على الغزارة والجفاف، وحين يتحول إلى أسلوب حياة شبيه بالعبادة. العربشرف الدين ماجدولين [نُشرفي2017/01/11، العدد: 10509، ص(15)] كانت تجتاح الروائي الأميركي جون دوس باسوس أفكار كئيبة عن الغيوم والعواصف حين يستغرق في الكتابة، تمزج المفردات والتعابير مع مشاعر الهروب من غضب متأصل في السماء والجو، ولم يكن يبتعد في تفكيره القلق والمضطرب والطافح بالهيجان، هو المولود من علاقة غير شرعية، عن أحوال كتّاب قلقين آخرين، ظل الجلوس إلى الورقة، أو آلة الكتابة المعدنية العتيقة، لديهم، شبيها بالاحتماء ببوابة عمارة من عاصفة رعدية تقتلع الجدران والشجر، والناس العابرين بهشاشتهم المؤبدة. يمكن هنا أن نستحضر أبيات إيليا أبي ماضي عن “الكآبة” و”السماء” و”الابتسام” هو الذي يقتسم مع دوس باسوس الكون الأميركي المجتاح دوما بالعواصف والأعاصير المخربة. هكذا قد تبدو الكتابة متعلقة بطقس مناخي هائج، قبل أن تتحول إلى اعتقاد في الطقوسية، أي في تفاصيل الوقوف والجلوس إلى المكاتب، أو التمدد في السرير، وتناول القلم والورق (أو تشغيل الكمبيوتر) ليلا أو نهارا أو في الظهيرة، أو ما بعد منتصف الليل،… يمكن في هذا السياق أن تكون الطقوسية مجازا عن الخضوع لرغائب الطيش، والعبثية العاصفة بالذهن، كما يمكن أن تكون، ببساطة، ترتيبا لإجراءات تطهر وجداني، مماثلة لتلك التي تمارس في الكنيسة أو المسجد أو الزاوية، حيث يجتبى الطقس الشعائري للتخفيف من قتامة الإحساس بالخطيئة أو على النقيض تماما حين يتحول الإدمان على الورق والحبر، ممهورا بجرعات قوية من منشطات العقل، ومهدئات الأعصاب المتوفزة دوما. في المحصلة يبدو الطقس، عزيزي القارئ، شأنا متعلقا بالكتابة داخليا وخارجيا وفي شتى الأحوال، عندما لا يكف عن الإحالة على الغزارة والجفاف، وحين يتحول إلى أسلوب حياة شبيه بالعبادة، سرعان من يضحى مطلوبا لمظهره الشكلي فقط، دونما كُنه إبداعي، من قبيل الجلوس يوميا في مقهى أو حانة، أو وضع المنفضة على المكتب مع الولاعة وعلبة السجائر جنب الكتب والصحف والورق والأقلام والكمبيوتر، دوما نتيجة إلا الجلوس وجها لوجه مع الطقس الخالص، شيء شبيه بالتردد إلى دور العبادة دونما إيمان أو خضوع لمقاصد. من هنا، يتجلى تجاوز الطقس من حيث هو إدخال للكتابة عوالم العقلانية، ويكشف عن قدرة على تخطي عتبات الفطرة، والرّهاب الداخلي، إلى تقاليد العمل، تلك التي تجعل الكاتب الحقيقي موظفا لدى الكتابة، بكل ما تعنيه الوظيفة من دلالات الالتزام الصارم، والدخول والخروج بمواعيد، والرغبة في الارتقاء عبر سلم الدرجات الخاضع لقوانين لا مجال فيها لأحوال الطقس. على هذا النحو، تتجلى الكتابة بوصفها عملا بالذهن واليد، لا مطرا أو نشوة أو صلاة … عمل مثل باقي الأعمال التي يحتاجها البشر، ولأن أي عمل من اللازم أن يكون مجديا، فإن الكتابة التي لا تدر شيئا، سوى الطقوس، يجب أن يبحث أصحابها ببساطة عن عمل آخر. كاتب من المغرب شرف الدين ماجدولين :: مقالات أخرى لـ شرف الدين ماجدولين طقوس الكتابة, 2017/01/11 العابر والمقيم, 2017/01/04 منافي الكتابة, 2016/12/27 ذاكرة المحو, 2016/12/14 المجتمع المغلق , 2016/12/07 أرشيف الكاتب
مشاركة :