محمد بودية.. مسرحي لا يشبه الآخرين | واسيني الأعرج

  • 1/12/2017
  • 00:00
  • 36
  • 0
  • 0
news-picture

انتابني المسرحي محمد بودية كما السهم الذي يخترق ذاكرة مثقلة بالأحداث والوقائع القاسية لدرجة نسيان جزء منا، في هذه الأيام التي تجري فيها وقائع مهرجان المسرح العربي بوهران، التي تشرف عليها هيئة المسرح العربي. مسرحي وضع قضايا شعبه وأمته في المقدمة. ليست قصة محمد بودية في النهاية إلا اختزالا لتاريخ نسي حتى أصبح بياضا مبهما. أخطر ما يصيب التاريخ من ضرر هو الانتقائية والذاتية، وتحوله إلى مزاج فردي أو سياسي. ذاكرتنا الجمعية صناعة عمياء أوقفها الورثة عند زمن محدود، افترضوه مرجعا تاريخيا نهائيا حتى ولو أدى بهم ذلك إلى نسيان الكثير من العناصر الجوهرية المشكِّلة لتاريخ البلاد. المحصلة تفقير للتاريخ وتدمير لكل تفكير حي لدى الأنتليجنسيا الوطنية. لا أحد من الذين جايلوا محمد بودية يجهل قيمته الثقافية وحضوره إبان حرب التحرير أو بعد الاستقلال. فقد عيّن مديراً للمسرح الوطني في سنة 1963، قبل أن يُكلِّفه انقلاب العقيد هواري بومدين ضد ابن بلا في 1965، السجن والمنفى وفقدان الثقة، ويكلفه انتماؤه للثورة الفلسطينية حياته، إذ اغتيل في باريس من طرف الموساد. ولد محمد بودية يوم 24 فبراير 1932 في باب الجديد في الجزائر العاصمة. حبه للفن والمسرح جعله يلتحق في سنة 1954 بالمركز الجهوي للفنون الدرامية. هاجر في عز الثورة، إلى فرنسا وانضم إلى فيدرالية جبهة التحرير. ألقي عليه القبض وهو يحاول تفجير أنابيب النفط في مرسيليا يوم 25 أوت (أغسطس) 1958، فحكم عليه بالسجن لمدة عشرين عاماً قبل أن يهرب في 1961 ويلتحق برفاقه في تونس. هناك أنشأ فرقة المسرح التابعة لجبهة التحرير الوطني. بعد الاستقلال كان من الذين بادروا بإنشاء المسرح الوطني وأعطوه حضورا حقيقيا في الحياة الثقافية. كان من أنصار مسرح وطني ملتزم يلعب دورا تكوينيا وحيويا مثلما هو الحال في الدول الاشتراكية، وقد صبغ هذا التوجه المسرح الوطني في عمومه ولم يتخلص من لمسة بودية السياسية إلا في السنوات الأخيرة. خلال إدارته للمسرح الوطني ظل مناصرا لكل حركات التحرر الوطني. في 28 ديسمبر 1964 بعث برسالة احتجاج من أجل إطلاق سراح الشاعر كارلوس لغريزو المدان من طرف محكمة عسكرية خلال دكتاتورية فرانكو. كما أنه كان صاحب المبادرة الرمزية التي قرر بموجبها تخصيص مداخيل الموسم الصيفي للمسرح عام 1964م دعماً لكفاح الشعب الفلسطيني. لكن علاقة محمد بودية المباشرة والجدية بالقضية الفلسطينية بدأت في كوبا، خلال لقائه بوديع حداد، المسؤول العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. بعد هذا اللقاء وضع بودية خبرته النضالية في خدمة النضال الفلسطيني.عاد محمد بودية إلى باريس في مطلع السبعينيات بصفته قائدا للعمليات الخاصة للجبهة الشعبية في أوروبا، متخذا اسما حركيا جديدا: أبو ضياء. أول عمل قام به هو التنسيق مع الجماعات اليسارية الأوروبية مثل الألوية الحمراء الإيطالية، مجموعة بادر ماينهوف الألمانية، الجيش الأحمر الياباني، ثوار الباسك، الجيش الثوري الأرمني. فقد كان المدبر الرئيسي لجميع عمليات الجبهة الشعبية في أوروبا في مطلع السبعينيات. ومن عملياته أيضا: التخطيط لتفجير مخازن إسرائيلية ومصفاة بترول في روتردام بهولندا. لكن أهم عملياته الناجحة كانت هي تفجير خط أنبوب بترولي بين إيطاليا والنمسا في 5 أوت (أغسطس) 1972م، مخلفا خسائر قدرها 2,5 مليار دولار. تعاون مع منظمة أيلول الأسود التابعة لفتح، ومن نتائج ذلك، مشاركته في عملية ميونيخ أثناء الأولمبياد عام 1972. كان دوره هو استضافة أفراد الكومندوس الفلسطيني قبل العملية، ثم تهريبهم وإخفاؤهم بعدها. في أعقاب هذه العملية التي انتهت بحمام دم، أمرت غولدامائير الموساد بتنظيم عمليات اغتيال قيادات فلسطينية في جميع أنحاء العالم، كعملية شارع فردان في بيروت عام 1973م واغتيال فلسطينيين في باريس مثل محمود الهمشري، وائل زعيتر. كان محمد بودية يعلم جيداً أنه هو أيضاً كان مستهدفا، وعلى الرغم من حرصه، فقد وصلته يد القتلة بزرع لغم تحت مقعد سيارته، الرونو 16 الزرقاء اللون التي كان يملكها، في صباح 28 حزيران (يونيو) 1973 أمام المركز الجامعي لشارع فوسي برنار في باريس. ماذا بقي اليوم من هذا الرجل الذي حاول تجسيد فكرة المثقف العضوي الذي يخرج من مسرحه ليندمج في القضايا العامة سواء كانت وطنية أو إنسانية؟ ماذا بقي من خيار العنف لمجابهة الظلم؟.

مشاركة :